والقصيدة الخالدة وكأني بنفسه تكبر ذلك وتأباه، وكأني به ينكر ويكذب ما يقول ولكنه يرضاه مرغما ليشبع في نفسه نهما إلى الملك والعظمة وكبار الأمور. ولو لم يكن تكن بين جنبي أبي الطيب تلك النفس الكبيرة لرضى بصغائر الأمور وحقائرها ولقنع بما قنع به غيره من عطاء الملوك ونوال الأمراء.
لم تكن قصيدة المتنبي في مدح كافور ضربا من المدح المعتدل، وإنما كان فيها إغراق في لا تعظيم وإسراف في الثناء. . . وما للمتنبي من غرض يبتغيه إلا أن تبلغ القصيدة قلب الممدوح وتصل إلى وجدانه. . . وما كان له من غابة، بعد ذلك إلا أن يستجيب له ذلك القلب وهذا الوجدان فيبلغه القصد ويدنيه من الأمل.
ولذلك نستطيع أن نسيغ تلك المبالغة التي نثرها في قصيدة بغير حساب. . ثم لا نكتفي بذلك بل لا نملك أنفسنا من أن نردد بكثير من الطرب والإعجاب قوله:
كتائب ما انفكت تجوس عمائرا ... من الأرض قد جاست إليها فيافيا
غزوت بها دور الملوك فباشرت ... سنابكها هاماتهم. . . والمغانيا
وأنت الذي تفشي الأسنة أولا ... وتأنف أن تغشى السنة ثانيا
إنها مبالغة لا شك. . ولكنها على جانب كبير من الروعة والجمال، ومن ذا الذي يمنع الشاعر أن يملأ ماضغيه بمثل ذلك وما ميدانه إلا الشعر. . وما قوامه إلا الخيال الواسع البعيد؟
لننتقل الآن إلى العاطفة، ولنفتش عنها بين أبيات هذه القصيدة فهل نرى لها أثرا. . وما حظها من القوة ونصيبها من الصدق؟
لا نستطيع أن نحكم بان المتنبي كان صادقا في مدحه لكافور لأنه إنما كان يمدحه حبا في الوصول إلى غرض معين. . ولكن كيف استطاع المتنبي أن يكسب قصيدته هذا اللون من القوة والتأثير وكيف استطاع أن يرضي كافورا - وإن لم يصل به رضاه إلى حد الاقتناع فالاستجابة؟
والواقع أن المتنبي لم يكن يضمر لكافور شيئاً من الحب كما أنه لم يكن يضمر له شيئا من البغض. . وكل ما هنا أنه كان يطمع في أن يصل إلى شيء عن يديه بواسطته. . إذاً فما له لا يستعمل براعته في أن يجعل من قصيدته هذه قصيدة صالحة لأن تقدم إلى ملك بغية