مذهب واحد؟ لا، بل يذهب بالناس مذهبين كل منهما يناقض الأخر كل المناقضة، والأمر فيه كالأمر في القدر، وموقف الإنسان من الحياة، ويلخص لنا المتنبي هذين المذهبين من وراء حب النفس تلخيصا حكيما، ويمهد له، ويعقب عليه، فيقول:
(أرى كلنا ينبغي الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا ... وحب الشجاع أورده الحربا
ويختلف الرزقان، والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنيا)
وأذكر أني قرأت قصة أوربي لا يحضرني الآن أسمه ولا اسم قصته. . تدور حول قسيس رأى امرأة تزل أحيانا، ففكر أن يهديها، وارتحل إلى إيطاليا في أمر وفكر في هدية يهديها إليها بعد عودته، فلم يجد امرأة ميتة، ففرح بها إيمانا منه بأن رؤيتها الجمجمة تذكرها بالموت فترتدع عن غيها، ولكن ما إن سلم إليها الهدية الثمينة حتى رآها تغرق في الفساد وتزداد ضلالا وغواية، وعجب من ذلك إذ رأى من مسلكها عكس ما كان يرجو، فلما سألها عن ذلك أعلمته أن رؤيتها الهدية قبلها تفارقها دون أن تنغمس فيها. . ذلك أنها فكرت فانتهت إلى أنه ما دام مصيرها كمصير هذه الجمجمة فأحر بها إلا تحرم نفسها إرضاء شهوة من الشهوات، وهذه دون شك نتيجة لا تزيد غرابة عن النتيجة التي كان ينتظرها القسيس الأريب وهي تعففها عن الشهوات. نتيجتان ليست إحداهما بأرجح من الأخرى. . ولا أدنى إلى العاطفة والعقل، لأن العبرة في أعمال الإنسان بدوافع حياته وطبيعته ومزاجه وحاجاته وشهواته، لا بعقله ولا بمذهبه الديني والسياسي ولا بما يسره أو يسوءه، فما دينه ولا وطنيته ولا عواطفه ولا أقواله وأعماله وآراؤه إلا صورة نفسه، وكلها معلومات وكلها حتى دينه إنما منزلتها بمنزلة الإناء الصافي من الشراب لا يتلون إلا بلونه، ولا ينضح إلا به