ولكني مع ذلك لا أرى ابن حمديس في المكان الذي نزلت به إليه، وأراك قد حملت على أبياته حملة غير منصفة. وقد قرأت وصف بشار وابن الرومي لأحاديث الحسان في أبيات جميلة لست أذكر نصها، وليس لدى من الكتب في مصيفي النائي ما أرجع إليه من أجلها، ولكن هذا لا يغض من جمال بيتي ابن حمديس. أما ابن ربيعة فلست أعلم عنه إلا حكايته لأحاديث النساء، وهي شيء آخر وصف أحاديثهن. ويشبه معنى حمديس للمرحوم مصطفى صادق الرفاعي هو:
إذا سألوها لجلجت فكأنما ... غرا اللفظ - لما مر من فمها - سكر
وتصوير الرافعي للفظ المترنح بديع
ولست أدري يا أخي لماذا لا يعجبك قول حمديس:
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
وكيف تفضل عليه بيت شوقي؟ حقا إن بيت أمير الشعراء أقوى ديباجة، ولكن انظر أليه وهو يأمرها أن تبتعد عنه وهو أمر لا يستساغ مهما كانت الأسباب. وخاطر شوقي ذهني جاف لا ينديه ماء الشعور. أما (روائح الجنة) فهي تدل على ما وراءها من حسن مرهف. وإنك لتظلم الشاعر إذ تسلبه فضل هذا التعبير لأن أبا العتاهية سبقه إلى الكلمة في قوله:
إن الشباب حجة التصابي ... روائح الجنة في الشباب
فإن استعمال كل منهما (روائح الجنة) غير استعمال الآخر
وليس هناك أية صلة بين المعنيين.
والحمد لله على أن أهملت بيت صبري في المقارنة بين الأبيات الثلاثة. . . وإني لعلى يقين أن التي يصفها لم تدع حسنها من ماء وطين. . حتى يقف موقف المفند لدعواها! وقد استحسن مؤلف (خلاصة اليومية) مخاطبة ابن حمديس للريح لتسوق إليه السحب الخالية من المطر ليملأها من دمعة لأنها تدل على غزارة دمعه. . وهي مبالغة ليس وراءها شيء إلا إذا كانت العبرة بالكمية!
أما المقارنة بين أبيات حمديس اللامية وبين قصيدة شلي في القبرة، فليس لدي الآن في المصيف ما ارجع إليه من أجل هذه القصيدة، وقد أجد في أمرها ما يدعو إلى تناولها بعد العودة إلى القاهرة إن شاء الله.