على حساب الآخر. . بل تجد على الضد من ذلك أن الشيخ راغب الطباخ يثني على عمل صاحبه ويزن عمله وزناً صحيحاً لا يعرفه إلا من كابد التأليف ويقول:
(وإني من الشاكرين لمساعيه. المقدرين لجليل عمله. فقد عانى في جمع تاريخه ما عانيته، وقاسى ما قاسيته. . . هذا وقد أجتمع عند كل واحد منا من المواد ما لم يجتمع عند الآخر، واطلع على ما لم يطلع عليه، فسترى في تاريخه ما لا ذكر له عندي. وستجد في تاريخي ما لا تجده في تاريخه، فلا يستغني بأحدهما عن الآخر، كما قيل: لا يغنى كتاب عن كتاب).
وهذه الروح العلمية الرحيبة الآفاق الواسعة الصدر قل أن تجدها في زماننا هذا، حيث يظن الناقد - مثلاً - أنه ليس في الدنيا غيره، وأنه الأديب ليس في العالم إلاه. . . وأنه - وحده - اجتمعت له التجربة الكاملة، والثقافة الرفيعة والذوق المرهف. . ثم لا يستحي أن ينشر هذا الكلام - الذي أستحي أن أنعته - في مجلة سيارة، ثم بعد ذلك في كتاب.
ولقد ترجم الشيخ راغب الطباخ في كتابه لمئات ومئات من الرجال الذين أنجبتهم حلب الشهباء. ولكنا لا نظفر في كتابه بترجمة ذاتية له، ولو صنع لكان أراح المؤرخ الأدبي من عناء الترجمة له، كما فعل السيوطي المؤرخ مثلاً حينما ترجم لنفسه في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة). وكما فعل المقرئ المؤرخ في كتابه (نفح الطيب). وكما صنع من المعاصرين الأستاذ محمد كرد علي بك في كتابه (خطط الشام)، والأستاذ محمد الأسمر في ديوانه (تغريدات الصباح).
على أننا لم نيأس من معاناة الترجمة لراحل وقف أكثر من حياته على تأليف كتاب واحد في التاريخ لحلب الشهباء، ورأينا أن هذه اللفتات الصغيرة في مقدمة كتابه الكبير، وفي الترجمة لجده الشيخ هاشم الطباخ ولوالده الشيخ محمود ولأخيه الشيخ محمد، ولعميه الشيخ عبد السلام والشيخ على الطباخ قد تعيننا على إخراج صورة لهذا العالم المتواضع الذي لم يحفزنا إلى الكتابة عنه إلا واجب الوفاء لعلمائنا الراحلين الذين لم يضنوا بجهد ولم يبخلوا ببذل في سبيل المعرفة والبحث، فكيف نبخل عليهم بصفحات مشرقة من تاريخهم نستأنس في كتابتها بما تلفظه عين البصيرة من هنا وهناك، وبما نجده مبعثراً في خلال السطور التي كتبوها. اعترافاً منا بفضلهم، وتلبية لواجب الوفاء لهم.