الصحيح، ودستور محمد وأصحابه الذي استطاعوا به أن يبهروا العالم أجمع، والذي رضيته جميع الشعوب التي خضعت له في ذلك الوقت.
كثيراً ما سمعنا من البعض أن المبادئ الخلقية الإسلامية مخالفة بطبيعتها للتقدم في شؤون الحياة السياسية، وهذا افتراء لا يقول به منصف، وتدحضه وثبة الإسلام القوية في أول عهدهن، وما تخللها من التماسك الروحي والحماس القومي، وما ظهر منها من دلائل الإيمان والقوة والمرونة، كما أن تاريخ المدنية الإسلامية يدلنا على قوة أوضاعها الخلقية السامية، غير أن بواعث تقدمها السريع هي بعينها نفس بواعث تأخرها وركودها السريع، وذلك لأن الشرائع العالمية وخاصة الشريعة الإسلامية، قد فكت قوى معتنقيها من آسار شرائعهم الضيقة الحدود، وأطلقت لهم الحرية في التعبير والاختيار، فتنبهت في نفوسهم قوى الإجماع على فكرة واحدة والعمل من أجل هدف واحد والسعي لغاية واحدة، فكان هذا التقدم السريع والارتقاء الخاطف وفاتها وهي تهدم حواجز الجنس والقومية، أنها تقضي على قوى الارتباط بالأصل والتحلل من الماضي، فكان هذا الانتكاس السريع الذي حل بهذه الإمبراطورية العظيمة، لأن التمسك بالقديم في نظري يعتبر عاملاً لازماً متمماً لحركة التقدم السليم، وما النعرة القومية أو ما يسمونه (التعصب) إلا اعتداد المرء بنفسه وتمسكه بقوميته وتقاليده، وهي عاطفة نبيلة ترمز إلى فكرة التحمس الوطني الذي هو عماد الرقي والتقدم وثباتهما، فإذا تلاشت هذه العاطفة أو ضعفت، أنهار الإحساس القومي وخمدت في الفرد روح التضحية من أجل الجماعة، وانتفت مميزاته وصفاته الوطنية وصبغته الشخصية، وزال طابعه الوطني الذي يعتد به، وهان عليه كل شيء.
إن الإسلام قد ظهر في بلاد تعتبر ملتقى قارات ثلاث تسكنها أجناس مختلفة من بيض وسود وصفر، ويختلفون في معنى القومية، فلما هدم الإسلام هذه الفوارق ونادى بفكرة المساواة بكل معانيها الواسعة، تزاوج المؤمنون من الأجناس التي دخلت حوزة الإسلام، بلا ضابط ولا قيد.
وإن كان هذا التزاوج سبباً من أسباب ازدهار الثقافة الإسلامية بفعل التلاقح البعيد المدى، إلا أن هذا الاختلاط الذي حدث بين جميع العرب وجميع الشعوب وخاصة الزنوج الذين دل التاريخ البشري على أنهم جنس عقيم الاستعداد للمدنية، بطئ الاستجابة لداعي الثقافة،