وبين الصورة التي رسمها الواقع: كلتاهما تنقل عن الحياة ألوانها الحزينة القاتمة، تلك الألوان التي تترك أثرها العميق في قسمات الوجه ونبرات الصوت وطريقة الأداء. . . وهكذا لقيت الشاعر المصري الراحل، صالح شرنوبي رحمه الله!
قال له أحد الأصدقاء الأدباء إنني أذكر شعره بما يرضي الحق ويرضيه، وإذا هو يسعى إلى ذات مساء ليقدم إلى شكره بعد أن قدم إلى نفسه، في صوت يقطر حياء ورقة؛ حياء الإنسان ورقة الفنان. . وحين أكدت حرارة اللقاء صدق ما بلغه متن ثناء، تبسط اللسان الحيي وتهلل الوجه الحزين، وأنطلق الشعور الملتاع يقص علي فصولاً من رواية طويلة، كتبها بمداد الشجن تجهم الحياة وعقوق الناس!
وودعت صالح شرنوبي في تلك الليلة. . ودعته وأنا أؤكد له سروري بلقائه، وأكرر له إعجابي بشعره، لتطمئن نفسه إلى أن له عند الحرصاء على القيم مكاناً في الأدب العربي الحديث!
ومضت الحياة بصالح شرنوبي حتى علمت يوماً أنه قد حورب في رزقه، حين فصل من عمله في إحدى المدارس الأجنبية وكان يحصل منه على أجر زهيد. . فصل من عمله كما قيل لي، لأنه كان كريماً على نفسه فلم يرض لها أن تضام، ومخلصاً لمصريته فلم يرد لها أن تهان؛ ومن هنا ثار على القائمين بأمر المدرسة دفاعاً عن كرامة وطنه. . وطنه الذي لم يلتفت يوماً إلى حقه عليه كأديب أو حقه عليه كإنسان!
وتناولت القلم لأعرض مأساته على الدكتور طه حسين، باشا ولكن معاليه كان قد غادر مصر إلى فرنسا فأمسكت القلم عن الكتابة إلى حين. . ويعود الوزير الأديب إلى أرض الوطن وأوشك أن أتناول القلم مرة أخرى لأتحدث إليه، ولكن صالح شرنوبي يعفيني من أداء هذا الواجب، ويودع الحياة والأحياء ويمضي في طريقه إلى لقاء الله. . فإلى قبره في ذلك المكان المقفر حيث قدر لهذا الجسد المكدود أن يستريح، أقدم عزاء القلب ورثاء القلم!. .