كان الأدباء قديما يلوذون بالملوك والمراء وأشباههم من الكبراء، لأنهم هم الذين يقرئونهم أو يسمعونهم، ويجزونهم على ما يقولون، ثم جاءت العصور الحديثة بالثورة على الطبقات الأرستقراطية، فتقدمت طبقات متوسطة إلى الصفوف الأولى في المجتمع وفي الحكم والسياسة. وقد تهيأت الفرصة للطبقة المتوسطة في مصر عن طريق التعليم في صدر هذا القرن العشرين، فارتفع منها أفراد إلى الطبقة العالية، وكان القراء يتكونون من هؤلاء وممن ظلوا متوسطين في حال حسنة، وكان حظ النوع الأول من الشعور بأنفسهم موفورا، وكان الآخرون المتوسطون يتطلعون إلى الأولين ويحاكونهم، فلم يكن يهم أولئك ولا هؤلاء ما تعانيه سائر طبقات الشعب من فقر وجهل ومرض. في هذه البيئة وفي ذلك الطور من الزمان نشأ أدباء الجيل الذي كان حديثا في ذلك الوقت، فكانوا لسان الطبقة المتوسطة ومن ارتفع منها.
وأرى من الضروري قبل الاسترسال في الحديث أن أنبه على أننا في هذا الموضوع بصدد اتجاهات الأدب، لا وصفه والحكم على قيمته، وأذكر كذلك أننا مضطرون إلى إجمال الكلام في هذا الحديث القصير، فليس ما نقوله ينطبق على كل الأدب وجميع الأدباء، وإنما هو على وجه العموم والأجمال.
كان أولئك الأدباء يحلقون في أجواء متعددة، وكان أكثر ما يطرقونه الدراسات الأدبية، دراسة الأدب العربي القديم، ودراسة الآداب الأوروبية القديمة والحديثة، ومنهم من اتخذ التاريخ الإسلامي مجالا للتأليف في عرضه وتحقيقه، ومنهم من اتخذ منه مادة لخيال أدبي وعمل فني. وهم كالطبقة التي صحبوا تقدمها في شدة الشعور بأنفسهم، فكانوا أحيانا يسرحون مع الخيال ويلزمون الأبراج العاجية، يستوحون فيها الخواطر والأفكار البعيدة عن معترك الحياة الدنيا، فإذا قصدوا إلى تصوير المجتمع لمسوه لمسا مترفا وعرضوه عرضا ملهيا يقصد منه الإقناع أكثر مما تلمس فيه الحرارة.
ثم تقدم الزمن وانتشر التعليم، وألحت الآلام على الناس في أعقاب الحرب الأخيرة، فأصبحوا ينظرون شزرا إلى تلك الآداب السابحة في أجواز الفضاء، ويعدونها ضربا من العبث، فهم لا يجدون فيها أنفسهم، ولا يرون بها صدى لما يشغلهم، فصاروا عنها من المعرضين.