ولما شاعت الفوضى على يد السفسطائيين قام (سقواط) بحملة موفقة على موجة الادعاء والغرور، وطلب الحقيقة فوجدها كامنة في الكليات لا في الجزئيات، فاصطنع الاستقراء للوصول إلى غاية، وأخذ في توليد المعاني من النفوس كما كانت أمه تفعل في توليد الأجنة من البطون، وبالحوار السقراطي بلغ الفكر إلى حيث ينبغي أن يكون وجاء تلميذه (أفلاطون) فكان أحرص على تراث الفيلسوف الأثيني، فابتدع منهجاً فريداً هو الجدل وجعله صاعداً ونازلاً أي أنه ارتفع بالنظر من المحسوسات في عالم التغير إلى المقولات في عالم الثبات، وانتقل بالفكر الخالص من الأرض إلى السماء أي من الأشباح إلى الحقائق، من الموجودات إلى (المثل) حيث كانت النفس قديماً في صحبتها، وإذا بأفلاطون بعد هذا التحليق ينزل بجدله هذا إلى أمور الدنيا لتفسيرها وتعليلها، ومعه قبس من السماء كأنه كبير الآلهة (زوس) الذي هبط إلى الأرض وفي عقب عصاء جذوة العلم
ولم يقف أفلاطون عند فكرة طارئة، بل أوصل فكرته إلى غاياتها البعيدة بأن رسم الحدود العليا لكل من الفرد والمدينة في دقة وعلى نحو رفيع، ولا ننس مع ذلك أسطورة الكهف الأفلاطوني التي ترمز بالكهف إلى الانحطاط في المستوى الإنساني من حيث الرضى بالأشباح الزائفة التي لا تغنى عن الحقائق شيئاً
ولقد خلع أفلاطون على تلميذه النابغة (أر سطو) أرفع وسام إذ سماه باسم (العقل) أو (عقل المدرسة) وذلك لما كان يمتاز به من سمو في التفكير وتوخ لصوت العقل
أنزل أر سطو الفلسفة من السماء إلى الأرض ليبدأ من الأرض وينتهى إلى السماء فهو من أميز أصحاب المعالي في انتقاله من العدم إلى الكمال، وبينهما درجات تصاعدية على أساس من (العقل)، فالهيولى أو المادة الأولى عدم أو شبه عدم، ويليها تصاعدياً الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان ثم تعلوه الكواكب ومن فوقها جميعاً (الله) باعتباره (عقل العقل) والذي هو الكمال المطلق والمحرك الأول الذي يحرك ولا يتحرك. وتحريكه للعالم إنما يكون عن طريق الجذب، والموجودات كلها تتحرك نحوه بالعشق لأنه كمالها، والناقص يطمح دائماً إلى الكامل
وعنى أر سطو كذلك بالنفس وميز الأخلاق الرفيعة من الوضيعة، بأن جعل الفضيلة وسطاً