للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من تبعات ومصاعب، ونحن لا نؤيده في دعواه، ولكننا نعرض جانبا من أبياته، ليضيء ما يغشاه من اضطراب وقلق، وإن كنا نرجع باللائمة إلى سلوكه المضطرب، وتربيته العوجاء، وزمنه الجحود، اسمعه يقول:

أيها العاقل المهذب مهلاً ... هل رأيت الزواج في الدهر سهلا

كل عام يزاحم الطفل طفل ... ليتني عشت طول عمري طفلا

ذاك يحبو، وذاك يمشي، وهذي ... فوق صدر، وتلك تنشد بعلا

ضاق صدري من الزواج فمن لي ... بحياة الخصي قولا وفعلا

كان هذا الشقي جسما فلما ... أنهكته الهموم أصبح ظلا

وهكذا يئس الشاعر من الزواج فلم يطرق بابه، وقد ادعى في مقطوعة أخرى أن لديه مانعاً يحول دون زفافه، فهو كالليل الحالك، وكل حسناء شمس منيرة، واجتماع الليل والشمس من ضروب المحال، وهذا ادعاء خطابي، فلكل ساقطة لاقطة كما يقولون

وتسألني عما نظمه إمام البؤساء مصوراً فاقته وعدمه؟ والحق أنه أسهب في تبرمه وتوجعه لحالته، وكان يحز في كبده أن يجوع وتأكل الماشية، ويعرى وتكتسي الأضرحة، ولولا أنه كان يسري عن نفسه بمجالس السمر ومطارح الفكاهة، لاحتراق بما يشتمل في صدره من جحيم، وقد كان ككل أديب بائس - يظن لديه من الحصافة والمرونة ما يؤهل له العيش الرغد، والنعيم الهنيء فإذا صدمه الواقع المرير بالبؤس والمتربة ثار على الوضع الجائر، وندب الحظ العاثر، وتطلب المكانة التي يصورها له خياله، وإنها لبعيدة عنه أشد ابتعاد!! وقد كان من القسوة الغليظة أن يلقبه الناس بالعبد وهو الأديب الحر العيوف، وماذا يصنع في لقب ورثه عن أبيه، ولازمه كالظل فما ينفك عنه أبد الحياة، أنه ليقابله بالعتب المرير، ويصيح كالساخر العابث:

نسبوني إلى العبد مجازاً ... بعد فضلي واستشهدوا بسوادي

ضاع قدري فقمت أندب حظي ... فسوادي على ثوب حداد

وإذا كان السواد ثوب حداد على حظه الضائع، فإنه في موضع آخر حداد على قلمه الكاسد!! هذا الذي لا يجر نفعا لصاحبه، وهو أحرى أن يملأ يديه بالذهب النضار، لو عاش بين قوم يقدرون فضله، ويحترمون مواهبه، وقد تمنى الشاعر أن يكون قلمه سهما

<<  <  ج:
ص:  >  >>