وردي على هذا المؤلف لم يخلق هذه الشخصية لمجرد إثارة الضحك، بل إنها تنطوي على سيكولوجية دقيقية تجعلها طرازا جديدا في الشخصيات، فهذا البله الذي يتصف به الغصن بله معقدا أشد التعقيد، فهو قد ورث عن أبيه خيالاً خصبا واسعا ولكنه لم يرث عنه عقله وحصاته، فلم يكن لخياله الجامح من شكيمة تكبحه وتجعله ينتفع به في معالجة شؤون الواقع، فكان ذلك المسخ العجيب الذي يجمع بين النقيضين من ذكاء وبلاهة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الرواية. وهذا الأقتصار على اللون الواحد وهو إهتمامه بديكه الضائع (عرجون) أمر ضروري لمراحل التطور النفسي لهذه الشخصية العجيبة. ثم إن هذا اللون الواحد لم يلزم صورة واحدة، بل مر بأطوار سيكولوجية مختلفة. وبيان ذلك أن هذا الأبله المغفل - فيما يرى الناس - قد أحس - لا شك - مرارة السخرية ممن حوله، فلم يكن بدعا أن يألف ديكه عرجون ويعتبره حبيبه الوحيد في هذه الدنيا لأنه هو الوحيد الذي لا يسخر به. . هذا هو الطور الأول، ثم أتفق أن ضاع الديك فحزن عيه وتخيله ما أصابه من اللصوص الذين سرقوه. . من سلخ وذبح وطبخ وأكل كأنما يرى ذلك بعيني رأسه فبكاءه أشد البكاء وشغله همه بالديك عن كل ما يضطرب حوله من الأحداث الكبيرة كعزل أبيه من منصبه وكقدوم الجراد، وهذا هو الطور الثاني. ثم إنتقل أبوه إلى بغداد وصار قاضي القضاة فسلا الغصن ديكه بعض السلوان، غير أن حزنه على الديك العزيز ما برح مستكنا ً في أعماق نفسه ينتظر أي سبب ليثيره من جديد. وقد جاء هذا السبب لما خرج ليلعب مع رفاقه في الشارع؛ إذ جره هؤلاء الرفاق إلى دخول الحمام ليحتالوا عيه فيكلفوه دفع أجرة الحمام عنهم جميعاً، فأوهموه بتلك الحيلة الطريفة أنهم قد أنقلبوا دجاجاً. وهنا يحار الغصن ويقع في ورطة لأن أمه قد حذرته من إخراج الفلوس التي معه لأي سبب من الأسباب، وإذا خياله الجامح يسعفه بالمخرج إذ خيل إليه حين وقف إلى المرأة أنه أنقلب ديكاً فهو مثلهم لا يستطيع الآن أن يدفع الأجرة. ولا شك أن لعقدة الديك المستكنة في نفسه أثراً في ذلك. . فها هو ذا عرجون رجع إلى الحياة في شخصه هو فهو إذن سعيد. وهذا هو الطور الثالث طور الناقص الذي لم يدم طويلا إذ جاء حماد فحله
ثم يحبس أبوه فيحزن لذلك لأن أباه كان شديد العطف عليه، ولم يسخر منه قط، فأتحدت