ألم تكن محموماص يوماً وأفقت من هذيان الحمى حين لامست أنامل الطبيب الباردة جبينك المحرور. . . وكانت تلك هي حال صلاح حين أفاق من ذهوله الحاد وصوت زملائه الكبار يعلو كالزئير. . .! وبدأ يشعر بالأشياء كما هي. . أدرك أن أباه قد مات. . . وأنه كان يهتف لمصر حين إنطلقت رصاصة غادرة تحاول بصوتها البشع أن تسكت صوت أبيها الجميل. . .!
وبدأ قلبه الصغير يستقبل المشاعر والأحاسيس ظاهرة واضحة لا يكتنفها الذهول والغموض. . . أجل كانت ظاهرة واضحة كأنها النار. وكانت لاذعة حارة كأنها الشوك. . .
وبدأ جسمه الصغير يتلوى في قبضة المشاعر، والأحاسيس. .!. . . أوه. . . إنه الآن يشعر شعوراً مريراً بأن هؤلاء الأنجليز. . . وحوش قذرة. . . أجل لأنهم قتلوا أباه في حين إن الوحوش الأخرى الكثيرة التي تملأ الحقول والصحاري والكهوف لم تحاول أن تقتله! وبأنهم لصوص حقراء. . لأنهم سرقوا منه البذلة الجديدة والقلم الأبنوس والحقيبة الجلدية الفاخرة. . وسرقوا منه أيضاً. . السهرات الجميلة في مقهى الدنيا الجديدة، والأمل الحلو النضير الذي أنعشه أبوه في خياله. . الأمل الذي يرى فيه نفسه موظفا ً كبيراً يجلس إلى مكتب كبير
إن هؤلاء اللصوص لم يسرقوا منه كل ذلك فحسب؛ بل سرقوا شيئاً آخر. وهنا إرتجفت أنامله الصغيرة وإرتعش جسده الغض. . شيئاً آخر لا يدري كيف يعيش بدونه هو تلك الإبتسامة الحنون المشرقة التي كانت ترف على ثغر أبيه حين يلقاه، وتلك النظرة الحانية الرفيقة التي كانت تزف إلى قلبه أبهج المشاعر وأنضر الأحاسيس
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة التي ألفها منذ أن كانت طفلاً في المهد. . ألفها حتى إقترن شكلها الخاص وطابعها المتميز بكل ما يحسه من ألوان الغبطة والسعادة. .!
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة لا هذه البسمات ولاهاته النظرات التي يحاول عمي (فهمي) أن يخرجه بها عن أساه المرير. .!
وأحس (صلاح مع تلك المشاعر كلها بشعور آخر ليس بمقدوره أن يتجاهله. . بل ليس في