في مختلف النواحي، حتى لتحسب القاهرة وضواحيها قد لبست ثياب العيد وحدها دون سائر البلاد بهرت الزينة الأنظار، وخلت الأفئدة، وجذبت إلى البركة مئات من الرواد، كان من بينهم شاعرنا (شهاب الدين) فجاس خلالها، وأشبع نفسه من مباهجها، وملأ فجاج قلبه من مرائيها، وعذى عواطفه المهتاجة بالجميل الرائع من مفاتنها
وبينما كان يلج في رياضته إذ التقى عرضا بصديقه الفقيه (ولي الدين) فحياه، وفي تحيته شيء من الإنكار والعجب. وقال له:(ويحك أيها الصديق! ألا تزال في نفسك بقية من شباب؟ ما الذي جذبك إلى بركة الرطلي؟)
ولي الدين: ما أحوج الشيب إلى متعتها! إنها لتجري ماءه، وتحي دماءه، وتطلق حياءه. . .
شهاب الدين: ألا تتركها لنا معشر الشعراء. . . يلهينا انسجامها مع عواطفنا، واتساقها مع احساساتنا عن البحث وراء حلالها وحرامها؟
ولي الدين: معاذ الله أن يغرينا دنسها أو يقربنا نجسها. والله يا بني! إن الحق أن لي ذوق المؤرخ الذي يجب أن يعرف كل شيء ويدون في صفحة فكره عن كل واقعة سطوراً، ويرسم في رقعة ذهنه لكل حادثة صوراً. لا يعنيه منها غير تسجيلها، قبل البحث في حرامها وحلالها. ثم هو بعد ذلك لا يصيبه من حلالها قلامة، ولا يصيبه من حرامها ظلامة
شهاب الدين: أما تزال تتأول أيها الشيخ كعادتك، وتهيئ لنفسك من كل حرج مخرجاً حسناً؟ أليس خيراً لك من بركة الرطلي، جزيرة بولاق حيث يقام مولد سيدي إسماعيل الأنبابي؟. . . أين صديقنا علم الدين الخياط؟
ولي الدين: هو هنا في عقر حانوت، ومعه أصدقائنا، وأنا منهم على ميعاد
(يؤمان الحانوت ويقابلان الأصدقاء، ومنهم علم الدين والتاجر والمستوفي وغيرهم. ويجلسان بين ترحيب حافل وفرح شامل ثم تدار على الجميع طاسات السكر والليمون، ثم يدبرون أكواب الأحاديث)
علم الدين الخياط يوجه الحديث إلى الشاعر شهاب الدين، قائلا - وكان لم يره منذ حين -: