للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهم يفكرون

والمدنية الحاضرة، ككل المدنيات، لها محاسن ومقبح. وقد تركزت على محاسنها، وتركت القبيح. لأن القبيح قبيح في كل فكر وكل عصر، وقد تتسم المدنية بقبيح لا ترضاه، ولكنه تعلق بأذيالها فحملته معها فيما تحمل من طبائع الناس

ومن أهل الشرق من يتصلب عوده تعصبا كلما سمع بالمدنية الغربية. وحق له أن يتعصب؛ لأن الشرق شقي بالغرب أكبر شقاء ولا يزال يشقى. وسوف يشقى

ولكن الشرق إن شقي بأهل الغرب، فهو لم يشق بمدنيتهم إنه شقي بالذي في طبائع أبناء آدم من أثرة من ظلم ومن إجحاف وأحياناً من سفه وغباء. وهو قد شقي بمثل هذه الطبائع في عقر داره، ومن أهله وعشيرته وأهل السلطان فيه، فكيف بالغرباء. والشرق ينسي أن هذه المدنية تجربة يمتحن بها أهلها كما يمتحن مقتبسوها، وأن أهل الغرب في محنة منها، بالذي تأتي به من ضائقات وأزمات، ومن حروب، لأنها مدنية لم تبلغ بعد الغاية منها، وبعض أهدافها قد تحقق، وسائر أهدافها ينتظر التحقيق

ومن أهل الشرق من تباغ به كراهية الغرب إلى حد أن يرى أن يقاوم الغرب، لا ظلمه وإجحافه، واستبداده واستعباده، ولكن أن يقاومه كذلك فكرة ومدنية. وهيهات. إن المدنيات القديمة أخذ بعضها من بعض، إذا تعادلا قوة، وقام بعضها على أنقاض بعض. ولم يكن في تلك الأزمان من تقارب الناس واتصالهم كما بين أهل الأرض اليوم من قرب اتصال. إن الطائرة وهي تطوف حول الأرض اليوم، تكاد تجارى الشمس سرعة التفاف حول الأرض فكيف يقاوم الشرق العربي، على ضعفه، مدنية عارمة واقعة تحت عينيه وعند سمعه، وأخبارها أسرع إليه من بعض أخبار قومه

وما لي أقول في هذا، والواقع يقول عني فيغني؟

أليست المدنية في وصلت إلى أبعد ما خال المرء أن تصل، إلى الصحراء. ألا يوجد في صحارى العرب اليوم بقاع نحلها، فتحسب أنك حللت بحلولها من المدنية في الصميم؟ وفي المدن، في بعضها، ألست تلقى المرأة محجبة من قمة رأسها إلى قدمها، تنظر إلى الدنيا من ثقوب، فإذا خلعت ذاك الحجاب تجلت تلك من تحته آخر أزياء باريس؟ وفي مدن الشرق العامة، هل تركت هذه المدن شيئاً من المدنية لم تأخذه عنها، من أسلوب بناء، إلى نظام

<<  <  ج:
ص:  >  >>