السلطان، فتتفرق كلمة المسلمين، ويصبحون طعاماً سائغاً للمتربصين من الأعداء. وخير عندهم أن يتغاضوا عن أفعال هذا الطاغية، من أن تدور الدوائر على الكلمة الجامعة والشمل المتماسك، فتنحدر الخلافة إلى المهوى السحيق! هذا ما كان يعتقده محرم والكاشف والرافعي وحافظ والقاياتي وغيرهم ممن أحالوا البساطل حقاً بمدائحهم المموهة، ووقفوا من ولي الدين وشيعته على طرفي نقيض!
وقد كان أمير الشعراء مدفوعاً إلى مدح السلطان الجائر بهذا الدافع من ناحية، وبدافع أقوى منه من ناحية أخرى، فهو شاعر القصر، وترجمان البلاط الخديوي، يأتمر بأمره، وينطق بلسانه. وكان النفور القائم بين الاحتلال الإنجليزي، والخديوي الشاب يدفع الباب العالي بالأستانة إلى العطف على عباس وتحييذه، كما يدفع الأمير الغيور إلى الاعتزاز بالسلطان والتطلع إليه. وطبيعي أن يعبر شوقي عن ذلك بمدائحه المسهبة في كل مناسبة تحين، وتمضي هذه القصائد إلى أسماع عبد الحميد فتأخذ مكتنها من نفسه، وتميل به إلى الشاعر المادح، فإذا زار شوقي الأستانة نزل ضيفا على السلطان، ونال من الحفاوة والتجلية ما يضاعف حبه وينعى إخلاصه، فيشدو بعظمة عبد الحميد، ويطلق لخياله العنان في تهنئته ومديحه! مع أن فظائعه الدامية لا تطاق بحال! هذا الوضع السياسي الذي جذب شوقياً إلى ساحة عبد الحميد، قد قابله وضع مضاد لولي الدين، حيث أتيح للشاعر أن يمكث مدة غير قصيرة بالأستانة. فرأى بعينه ما يسمعه الناس من فضائع السلطان، وشاهد الظلم والدسيسة والخيانة في أبشع صورها، فلم يطق صبراً على ما شاهد بعينه وليس بيده، فرجع إلى القاهرة وأنشأ جريدة الاستقامة، وأعلن الثورة على السلطان في جبروته، ورسم بقلمه المؤثر صوراً حزينة للضحايا الأبرياء الذين تجرعوا الغصص القاتلة بالأستانة، فأصبح من أعلام المعارضين للسياسة العثمانية. وقد حوربت جريدته محاربة شديدة، وتصدى لها الحكام والولاة تصدياً ماحقاً، حتى لم تعد تصل إلى قرائها في مختلف الأمصار. ورأى الشاعر من الحزم أن يقطع صدورها، ولكنه لم يغمد قلمه بل شهره في الصحف اليومية التي تميل إلى رأيه، وجعل من جريدتي المقطم والمشير منبراً يذيع حملاته من فوقه. وشاءت السياسة العثمانية أن ترشوه كغيره من المعارضين، فعين عضواً بمجلس المعارف الأعلى في الأستانة. وكان الظن به أن يقنع بمنصبه الساحر، ولكن واصل الهجوم العنيف