دون مبالاة، فصدر الأمر بنفيه إلى سيواس! وقضى سبع سنوات في مكان موحش مقفر، لا يرى غير الغيوم والصخور والأمطار والهضاب. وكلما اشتعل الغيظ في صدره أرسل قر يضه مندوا هاجياً، ولم يذق طعم الراحة حتى صدر الدستور العثماني ثم عزل السلطان بعد ذلك فهوى إلى الحضيض!
هذه عجالة تاريخية توضح لنا البواعث التي حدت بشوقي وصاحبه إلى موقفهما المختلف من السياسة العثمانية. والباحث المنصف يعجب كل الإعجاب ببسالة ولي الدين وشجاعته، فهو لم يشأ أن يذعن للباطل في أمر مهما قبض الثمن غالياً، وكان يغيظه من شوقي أن يبالغ في مدائحه مبالغة تدعو إلى الدهشة والاستغراب، فهو يعلم تمام العلم ما يجري بالأستانة من محن ونكبات، ولكنه لا يقتصر على الثناء الرسمي والدعاء بالتوفيق والهداية كما يفعل مادحو السلطان، بل يزعم أنه أعاد سيرة الفاروق، وأنه كلل البائسين والأيتام بتاج من عطفه وإخلاصه، وأن الخصب والنماء والغمام هبات تتناثر من كفه، يا إن البيت العتيق ليشكر ربه من أجله، وعرفات يسعى هاتفا به، وأن الرسول يهنأ في قبره بحياته، فهي حياة الدين واليتامى والمساكين! إلى غير ذلك مما يراجعه القارئ في الشوقيات!
وبعد جهاد متواصل كادح من الشعب والجيش كان ما لا بد أن يكون، فقد حاق المكر السيئ بأهله؛ ودارت على الباغي الدوائر، وتقدمت الجيوش زاحفة إلى (يلدز) فسقط السلطان من عليائه، ونزل الجبار عن عرشه. وطار الخبر إلى ولي الدين فصفق شعره في خاطره، ونظم قصيدة شامتة يذكر فيها السعادة الذاهبة، والمجد البائد، ويتصور الأسير المهيض وقد كبل بالأغلال وتجرع غصص الحرمان متيقظا، فإذا أغفت عينه نغصته الأحلام بأطياف خاطفة لكلكه الزائل، وبدره الآفل! إنه ليقول في تشف ساخر وتهكم مرير:
عزاء أيها النافي الرعايا ... ولا تجزع فخالقهم نفاكا
حرمت كراك أعواما طوالا ... وليتك بعد ذا تلقى كراكا
تفارقك السعادة لا لعود ... وقد عاشت خطاها في خطاكا
فدع صرحا أقمت به زمانا ... وقل يا قصر لست لمن بناكا
نعم عبد الحميد ما ندب زمانا ... تولى ليس يحمده سواكا