أما الأخبار التي جاءت من طريق الآحاد وحملتها كتب الحديث فإنها لا تعطى اليقين وإنما تعطى (الظن) والظن لا يغني من الحق شيئا. وللمسلم أن يأخذ بها ويصدقها إذا أطمئن قلبه بها وله أن يدعها إذا حاك في صدره شيء منها. وهذا أمر معروف عند النظار من علماء الكلام والأصول والفقه ولم يعارض فيه إلا (زوامل الأسفار) من الحشوية الذين لا يقام لهم وزن.
وإذا نحن أخذنا حديث الذباب على إطلاقه ولم نسلط عليه أشعة النقد فأنا نجده من أحاديث الآحاد وهي التي تفيد الظن - وإذا لم يسعنا ذلك في رده بعد أن أثبت العلم بطلانه فليسعنا ما وضعه العلماء من قواعد عامة - ومن هذه القواعد (أنه ليس كل ما صح سنده يكون منته صحيحا، ولا كل ما لم يصح سنده يكون منته غير صحيح - بل قالوا - إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون صحيحا في الواقع، وأن صحيح السند قد يكون موضوعا في الواقع. ومن القواعد المشهورة: أن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.
وإذا قيل إن هذا الحديث قد رواه البخاري وهو لا يروي إلا ما كان صحيحا، فأنا نرد على ذلك بأن البخاري قد روى في كتابه ما اعتبره هو صحيحا عملا بظاهر الإسناد لا ما ثبت في الواقع أنه صحيح. ومن أجل ذلك لا يلزم غيره بما اعتبره هو. وإذا قالوا حديث (متفق عليه) فليس معنى ذلك أن الأمة كلها قد أنفقت على صحته، وإنما معنى ذلك أن البخاري ومسلم قد اتفقا على روايته.
قال الزين العراقي في شرح ألفيته (وحيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح فمرادهم فيما ظهر لنا عملا بظاهر الإسناد لا أنه مقطوع بصحته في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان على الثقة. هذا هو الصحيح عند أهل العلم المحققين.
ولهذه القواعد وغيرها مما عرف من تاريخ الحديث قال عبد الرحمن بن مهدي (لا يكون إماما في الحديث من تتبع شواذ الحديث أو حدث بكل ما يسمع أو حدث عن كل أحد)
وقال أبن أبي ليلى (لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع)
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده (لا أومن بحديث تعرض لي شبهة في صحته. وليست