الأمراء يلزمون به الخطباء من ذكرهم على المنابر بأوصاف لم يرها سائغة شرعا. وربما يكون قد أقيم في الخطابة، ثم فر منها. وترك الأندلس سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، يريد الحج، فدخل مصر في ذلك العام. ولست أدري لإن كان قد أتم فريضة الحج أو لم يتمها، وألقى عصا التسيار في مصر عندما جاء إليها مستوفيا حظه من الثقافة التي تتصل بالقرآن، ولكنه رأى أن يستكمل دراسته للحديث، فسمع بالإسكندرية الحافظ السلفي. ثم جاء إلى القاهرة تسبقه إليها شهرته، فطلبه القاضي الفاضل للإقراء بمدرسته، فأجاب بعد شروط اشترطها عليه، على ما كان فيه من الفقر. ولست ادري عن هذه الشروط شيئا، ولكن القاضي الفاضل، فضلا عن قبول هذه الشروط، أنزله على الرحب والسعة، وعظمه تعظيما كبيرا وجعله شيخ مدرسته. وظل الشاطي بهذه المدرسة متصدرا لإفراد القرآن الكريم وقراءته، والنحو واللغة، ولم يفارق القاهرة سوى مرة واحدة، زار فيها بيت المقدس، فصام هناك رمضان، واعتكف سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وهنأ صلاح الدين بفتحه، ثم عاد إلى مدرسته التي انتهى إليه فيها رياسة الإقراء، وكان يعرف مذهب الشافعي ومالك ولذا نراه في طبقات الشافعية والمالكية؛ فضلا عن أن شروط مدرس الفاضلية أن يكون ملما بالمذهبين؛ وثابر على الإفراد بمدرسته، فكان يصلي فيها الصبح بغلس، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السرى إليه ليلا. وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أولا فليقرأ. وظل خادما للقرآن الكريم حتى توفى يوم الأحد بعد صلاة عصر اليوم الثامن والعشرين من جمادي الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة القاضي الفاضل، وخلف ابنا هو محمد الذي روى قصيدة أبيه في القراءات.
أما مواهب هذا الرجل وأخلاقه فقد أكبرها معاصروه ومؤرخوه. قالوا: كان أعجوبة في الذكاء، يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر لذكائه، وأنه لا يبدو منه ما يدل على العمى. زاهدا عابدا، مخلصا فيما يقول ويفعل، منقطعا للعلم والعمل، يتجنب فضول الكلام، ولا ينطق إلا بما تدعو إليه الضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة، وخشوع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكى ولا يتأوه. وما كان يرى التقرب إلى الأمراء، ولا النفاق والزلفي إليهم. حكي أن الأمير عز الدين موسك، الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له، بعث إلى الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ