للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ونصرة الضعيف، وأريحية القلب وألمعية القريحة، فإن العربي رغم أنه طول وقته يظل صامتاً كما قلت، إلا أنه إذا تكلم تدفق فصاحة وقوة، وكان ذلك يظهر جلياً في منافساتهم الشعرية التي كانوا يعقدونها في جنوب البلاد، حيث تقام أسواق التجارة، فإذا انقضت الأسواق اجتمع العرب بسوق عكاظ وتناشدوا الشعر طالباً للجوائز التي كانت تعطي لمن جاد قوله وحسن قريضة. وكان هؤلاء الأعراب غلاظ الأكباد جفاة الطباع، ينصتون للمنشد فيجدون لرناته أثراً قوياً في نفوسهم، ويرتاحون لنغماته التي تأخذ طريقها إلى شغاف قلوبهم.

وأرى لهؤلاء العرب فضيلة تفوق كل الفضائل، وتجمع المحامد كلها، ألا وهي فضيلة التدين، فالعرب شديدو التمسك بدينهم، مهما كان لا يقبلون فيه طعناً ولا يسكتون على تجريحه، ولأنهم كانوا يعيشون في الصحراء يشاهدون مظاهر الكون، فكان أكثرهم يعبدون الكواكب وغيرها من كائنات الكون ويرون فيها مظاهر الخالق ودلائل عظمته.

وقد كان لهؤلاء العرب أنبياء سابقون جاءهم من عند الله، كما كان لهم أساتذة ومرشدون في كل قبيلة، يلتف حوله أهلها يقدرونه حسبما يبلغ من العلم والدراية وحصافة الرأي.

وكان مما اتصف به العرب المفكرون، الحكمة البليغة والرأي السديد، فقد اتفق النقاد على أن (سفر أيوب) أحد أجزاء التوراة، كتب في بلادهم، والدليل على هذا ما يمتاز به من فضل وشرف وحكمة. فهو أبرع ما سطر وأبلغ ما كتب، وبما فيه من عمومية الأفكار التي تخالف التعصب البغيض الذي يمتاز به العبرانيون. وسموها وشرف مقاصدها، ويكفي أنك تجد بهذا الكتاب اتصالا بكل نفس وأنه يمت إلى كل قلب، وأنه كالبيت العريق والمجد الأثيل، يفضي إليه منتهى السبل، ويتجمع فيه الأرج الضائع، وتحاول الانتساب إليه جميع الأنوق، فيه من الحزن الشريف آيات بينات، ومن التوكل الحسن الجميل دلائل ناصعة على قدرة الله وتدبيره الكون. وما بالك بكتاب يكون أول ما جاءنا عن مسألة المسائل. حياة الإنسان وما يكون له من نصيب في هذه الدار وفي الدار الآخرة، وما يكافئ الله به الإنسان على عمله، كل ذلك في يسر وسهولة ونصاعة بيان، إنه الحق من حيث أتيته، والنظر الثاقب والعلم الراسب في قرارة كل شيء وصميم كل أمر، مادي روحاني. وإن دل كل هذا على شيء فإنما يدل على فهم غزير وبصيرة نافذة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>