الوجبة المسمومة بشهية مفتوحة. . . وطفق الإنجليز يستعدون لملاقاة الشعب من جديد.
أشرفوا على الجيش فنكبوه وأماتوه. . . وساعدهم المتزعمون بالرضا والتشجيع، فتركوا قوانينهم الرزق توثق الشعب باليمين والشمال: فالإعفاء من الجندية للدافع والحافظ. . .
وحمل السلاح محظور. . . والاجتماعات لها عندهم نصوص وعقوبات. . .! وهكذا التفت الشعب فوجد أن يبذل من دم وعرق، عاد عليه قيد يغل، وسيفا يرهب، وتشريعا يجور. . .!
وهكذا نشأ الجيل الحاضر: جيلا لا يعرف كيف يمسك سكينا، ولا يصوب بندقية ولا يرمي قنبلة. . .
نشأ جيلا له الأصابع وليست له الأظافر، له الفم وليس له الناب، له القوة ولكن لها ما يحطمها، لها الحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين. تخدر الأعصاب فلا تحس بر واعد النذر تدوي كل يوم حول آذان لا تسمع، وتبرق كل آن أمام نواظر لا ترى. . . ورضى - هذا الجيل - لنفسه أن تسمح لغيرها - في الحرب الثانية - بالدفاع عن أرضه. . . ناسيا أنها سبة لا تغسلها إلا هبة، وعار لا تمحوه إلا نار. . .!
واستنام الإنجليز للمرة الثانية؛ فقد استطاعوا أن يمدوا أيديهم إلى مواطن القوة في الشعب فخنقوها، وإلى الغدة التي تنزو بالعزة والإباء في النفوس فجففوها. . . وباتوا وأصبحوا. . . فإذا قطيع يضرب فلا ثغاء، ويحلب فلا استعصاء، ويستحث فلا إبطاء. . . ورقصت الفرحة في عيونهم رقصة النصر. . .!
ولكن الجفاف الذي أصاب الغدة كان طارئا فزال، ومؤقتا فانقشع، وعادت تنزو من جديد. . .! وعربدت في الصدور نوازع الشمم، عنيفة كأقسى ما يكون العنف، قوية كأعنف ما تكون القوة، وآثر - القطيع - هذه المرة أن يكون حذرا واعيا، وأن يجتث الشر من أصوله، لقد رأى المعاهدة تفرض على كل يد قيدا، وعلى كل عين غطاء، وعلى كل كتف نيرا، فألغاها. ورأى الاحتلال يسميه خسفا، ويقتله جوعا، ويرفع على ظهره سوطا، وأيقن أنه لا يدافع بيد عارية، وأفواه خاوية، فهب يدفع كل هذا عنه، ثم بدأ وفي كفه المخلب، وفي فمه الناب، وفي قلبه العزم. بدأ وفي يده المدفع، وفي جيبه القنبلة، وفي منطقته الرصاص، وتحت إبطه اللغم. . .