والثقافي - أن الأساليب الاستعمارية لم يعد يحتملها أو يصبر عليها أحد؟ وما هو التعليل لعدم يقظة الضمير البريطاني ولوقفة جامدا أمام الأساليب التحكمية والاستعمارية التي سارت عليها الحكومات الإنكليزية؟ وهل ما يجري في المستعمرات وفي البلاد التي ابتليت بالانتداب يتماشى مع روح العصر وتقدم الأفكار ويقظة الضمائر؟
إن الشعب الذي يستسيغ مأساة فلسطين وأقامت دولة إسرائيل بعد أن مهدت حكومته لتشريد مليون عربي وسلب أموالهم وحقهم في الحياة في بلادهم، ويستسيغ المظالم التي صبها الاستعمار البريطاني في الهند وإيران والتي لا يزال يصبها في بلاد العرب والملايو - أقول إن الشعب الذي يستسيغ كل ذلك، ولا يوقف الأساليب الباغية التي تلجأ إليها حكوماته لهو شعب ناقص التربية جامد الضمير.
ذلك لأن التربية التي لا تنمي في الشعب روح العدل الشامل وروح الخير العام وروح النفور من الظلم والاعتداء لهي تربية ناقصة قد طغت عليها المادية والنفعية فأعمت (الشعب) عن الحق والحقائق فضاق أفقه وأصبح لا ينظر إلى القضايا والمشاكل إلا من زاوية مصالحه الخاصة.
ومن يدرس مذهب بعض الفلاسفة الإنكليز يتبين له السر في جمود الضمير البريطاني؛ فمذاهب الفلاسفة الأخلاقية توضح لنا المثل الأعلى كان لهذا الشعب أو ذاك، ويمكن اتخاذها مقياسا لتقدم الضمير الإنساني لقد برز في إنكلترا في القرن التاسع عشر الفيلسوف (جون ستيوارت مل) وهو صاحب مذهب خاص في الأخلاق يطلق عليه مهذب النفعية (بوتيليتريا نزم) ويقوم هذا المذهب (أو هذه النظرية الأخلاقية) على اعتبار المنفعة أساسا للأخلاق. وقد أتى (مل) في شرح ذلك على بيان تحليل غريزة حب المنفعة وإرجاع الفضائل إليها مستعينا في هذا بعلم النفس والاجتماع. وليس المجال الآن مجال تفصيل هذا البيان، ولكن يمكن القول أن مذهب (مل) في النفعية لم ينتهي إلى الغاية التي أرادها له بعض الفلاسفة، بل جنى على الأخلاق ونزل بها عن مستواها العالي بجعله (المنفعة) أساس كل عمل وإرجاعه الأعمال الأخلاقية إلى بعض الغرائز والقوى النفسية. وعلى هذا تسير الأخلاق على ضوء الغرائز والميول بدلا من أن تضبط الأخلاق وما في الإنسان من غرائز جامحة وميول عنيفة.