ويطغي على فدوى حس مبهم مجنح يعاود مثله الشعراء الذين ينطلقون وراء المثل العليا أو يلوبون على حقائق يتوهونها وينشدونها، إنهم في عالمهم الخاص يبدعون شخوصا وأشياء ثم يضفون عليها من ألوان الوجود، فإذا هم يناجون ويهتفون وليس بين أيديهم إلا هذه المثل الهائمة المدومة في آفاقها البعيدة. وهذا سر تفوقهم في متع الخيال وتهاويل الباطن! والشاعرة الطوقانية لم تنحرف عن سنة هؤلاء؛ ففي شعرها الذي قالته بعد الرثاء لمحات ظمأ وحنين، ونفحات فن وإحساس عنيف، فيها حمل لها على الانفلات من قيود عزلتها ووحشتها، وقد عبرت عنها بالشوق إلى المجهول.
ولا يحسبن بعض الملمين بشعر فدوى أن هذا المجهول الذي تمضي وراءه متلهفة حيرى هو المحبوب أو الزوج أو الولد، إن هذا لمن أتفه ما يصبو إليه الشعر. وإنما تغذ الشاعرة تأملاتها وشحطات شوقها وراء الغيوب، في السديم المثالي لعالم الشعر الذي لا يفنى. وقد أحس هذا الإحساس كثير من الشعراء والشاعرات وكانوا متزوجين ولهم أولاد وحفدة، وما نسينا تحليق شيخ الشعراء بفرنسا (فيكتور هوغو) حين نشر جناحيه في سموات هذا المجهول الشارد بأكثر قصائده التي وضعها بديوانه المسمى (كيف يصير المرء جدا) ومرد ذلك عندي إلى الألم العميق، فإن هوغو فقد بنته وزوجها غرقاً فبقى محزوناً عليهما، وقال ذلك الشعر الذي يهفو إلى المجهول بسائق من هذا الأسى المقيم. وكذلك أرد شعر فدوى في هذا الصدد، فلولا أخيها الذي ضعضعها، وهذه الهواجس التي ألمت بنفسها لما سمت روحها نحو هذه المثل البعيدة.
وإذا كان لقولي هذا ختام على إيجازه في الشاعرة الطوقانية فأجمل ما ينبغي أن يكون الكلام فيه على شعرها الوطني. وهل ذهب ذاهب إلى أن فدوى التي هزها الأسى على أخيها إبراهيم لم تكن ذات شعر وطني؟ هيهات هيهات! فإن جبل النار الذي يغلى حمية وحرية هو الذي تحدرت من قمة فدوى، وطبعها على هذا الشعر الذي رددته وكأنه أغاريد بطولة وجرس سلاح.