ألفاظها كل بحسب رأيه في معناها كما تراه في رواية هذا الحديث، فبعضهم قال إذا وقع في الشراب، وبعضهم في الطعام وبعضهم في الإناء، ومنهم من عير بالغمس، وبعضهم بالمقل وهو بمعنى الغمس، وبعضهم عبر بالنزع والآخر بالطرح والمراد من كليهما واحد، ومنهم من اقتصر على الغمس ولم يذكر النزع ولا الطرح، ومنهم من قال فليغمسه كله ومنهم من أسقط كلمة كله، ومنهم من قال في إحدى جناحي داء ومنهم من قال سم، وبعضهم قال يتقيأ والآخر قال يقدم.
ولكن الروايات كلها اتفقت في أن الداء أو السم هو في أحد الجناحين وأن الشفاء في الجناح الآخر، وكذلك اتفقت أيضاً في بيان سبب الأمر بالغمس، وهو أن الذباب عند وقوعه في الشراب يتقى بالجناح الذي فيه الداء، أو يقدم الجناح الذي فيه السم ويؤخر الآخر كما جاء في الرواية الأخرى.
فالأمر بالغمس إنما جاء لكي يدخل في الشراب الجناح الآخر الذي فيه الشفاء. إن هذا الاختلاف اللفظي الذي جاء في هذه الروايات لا يقدح في صحة الحديث إن كان صحيحاً ما دام المعنى المراد فيها كلها واحداً. ولكن على فرض صحة الحديث يستعبد أن يكون رسول الله تكلم بهذه الألفاظ المختلفة كلها، وإنما عبر بواحدة منها، والرواة التزموا جانب المعنى فعبروا عنها بما يوافقها أو يقاربها، سواء كان ذلك منهم عن قصد لمراعاة المعنى، أم عن نسيانهم وذهولهم عن الألفاظ، فإن المعنى قد يرسخ في ذهن الراوي وتشذ عنه الألفاظ، فإذا أراد بيانه عبر عنه بألفاظ من عنده. وكل من قرأ في كتب التاريخ شيئاً عن حياة الواقدي أحد مشاهير الرواة في القرن الثاني عرف كيف تكون الرواية بالمعنى، فإن هذا الرجل كان من أعجز الناس عن حفظ الألفاظ حتى إن المأمون الخليفة العباسي أراد مرة أن يحفظه سورة الجمعة من القرآن فما استطاع. ثم وكل به من يحفظه إياها فما استطاع وكان الموكل به إذا حفظه آية ثم أنتقل به إلى ثانية نسى الأولى، وإذا عاد إلى تحفيظه الأولى نسى الثانية. وكان يقرأ ما نسبه بالمعنى فيبدل الألفاظ. وأمثاله في الرواة كثيرون.
لا يتسع المقام لنقد الرواية بالمعنى، وبيان ما ينتج ما ينتج عنها من مضار، فنترك ذلك لفرصة أخرى؛ غير أنا نقول لجوهر المعنى ارتباطا كليا بجوهر اللفظ؛ فكل تغيير في اللفظ لا يخلو من تغيير في المعنى، قل أو كثر، حتى أننا لو وزنا الألفاظ المترادفة