وعدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى. وقد كان كسرى يأذن له في الخاصة، وكان معجبا به قريبا منه. وكان عدي إذا دخل على المنذر، والى كسرى على الحيرة، قام جميع من عنده حتى يقعد عدي، فعلا له بذاك صيت عظيم، ورغب إليه أهل الحيرة ورهبوه.
وقد سفر عدي لكسرى بعض السفارات، فأرسله إلى ملك الروم بهدية من أطرف ما عنده، فلما أتى عدي ملك الروم أكرمه، وطاف به في أطراف بلاده ليريه سعة أرضه وعظيم ملكه. ومن البلاد التي طاف بها بلاد الشام. ويبدو أنه مكث بدمشق زمانا. وقد قال وهو في الشام يتشوق إلى الحيرة، ويذكر أيامه فيها، ويفضلها على دمشق:
رب دار بأسفل الجزع من دو ... مة أشهى إلي من جيرون
وندامي لا يفرحون بما نا ... لوا، ولا يرهبون صرف المنون
قد سقيت الشمول في دار بشر ... قهوة مزة بماء سخين
ودومة هذا هي الحيرة - وجيرون بناء عند باب دمشق وقام قوم هي دمشق نفسها.
ولما كان عدي بدمشق فسد أمر الحيرة، لأن أهلها أرادوا قتل المنذر، لأنه كان لا يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه. ولما علم بذلك المنذر بعث إلى زيد بن حماد، أبي عدي، وكان قبله على الحيرة كما سبق، وحدثه فيما بلغه من أنباء تبرم أهل الحيرة به وعزمهم قتله، فمحضه النصح وأخلص له، وأرضى أهل الحيرة، وأصلح بينهم وبين ملكهم المنذر، وجعل له اسم الملك والغزو والقتال، وما دون ذلك فهو لزيد. وقد شكر المنذر هذه النعمة وأقسم أن يحفظها له.
وبعد مدة قدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه زيدا والدهقان المرزبان قد هلكا جميعا، فأستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة فأذن له، فتوجه إليها. وبلغ المنذر أن عديا قادم إلى الحيرة، فخرج وتلقاه في الناس، ورجع معه.
ولثقة المنذر بعدي، ولما عليه عدي من خلق أعجب به المنذر، ولتطواف عدي في بلاد كثيرة، ولخلطته الدانية به وبالكبراء في معية كسرى، ولمنزلته الرفيعة بين الناس، ولمعرفته بالفارسية والعربية، لكل هذا جعل المنذر عديا مربيا ومؤدبا لابنه النعمان الأصغر، هذا الذي سيكون ملك الحيرة بعد أبيه المنذر، وهذا الذي ستشتد الخصومة بينه وبين عدي حتى يتناكرا، ولا يتعارفا، إلى آخر الزمان.