وقد كان لعدي مكانة عالية ومنزلة رفيعة في أنفس أهل الحيرة؛ إذ هو كاتب كسرى، وهو سفيره إلى قيصر، وهو ابن زيد ملكهم من قبل، وهو المكرم لدى المنذر، ثم هو الرجل العارف بلسان العرب ولسان الفرس والطائف ببلاد الروم - وقد أهل هذا كله عديا ليكون أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أراد أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يؤثر الصيد واللهو واللعب على الملك، وكان يؤثر فراغ البال والارتحال.
ولعلك قد علمت بهذا أن عديا قد تربى في أحضان النعمة، وأنه لم يكن باديا جافيا، وأنه قد استنار بما اطلع عليه من أحوال في ديواني كسرى وقيصر، وأنه قد ثقف وتهذب وسمع بكثير من الأخبار والأحداث، ورأى ما لم يره غيره، وعرف عن الروم كثيرا وعن الفرس أكثر. ولعلك قد عرفت أيضاً أنه لم يكن رجلا كالناس، بل كان أنبل وأعرق من كثير منهم، وكان له فضل منزلة عندهم. وإن كان عدي قد سعى إلى مثل هذه المنزلة العارفة الكريمة، فإنه يجب ألا نغفل فضل أبيه عليه، وتمهيده لهذه المنزلة التي سما إليها ابنه؛ فقد كان الأب ملكا على الحيرة حتى يعقد كسرى لمن أراد، وكان مرجع أهلها فيما ينوبهم من حدث وحال؛ فكأنه كان رجلا نزيها عفا، يلجأ إليه حين تتحرك الشهوات من عقالها فما يتشهى ولا يسعى لخير نفسه، ولكنه يسعى لعامة الناس وجدواهم. وهذه خلة تضفي على الرجل كرامة، وتضفي على من يتصلون به كرامة، فما بالك لو كان المتصلون به أهلا وأولادا كعدي شاعرنا. ولعلك بهذا قد عرفت العلاقات الوثيقة التي توثق بين بيتي عدي والنعمان الأصغر؛ فقد تعارف أبواهما من قبل، وتصادقا، وتعاونا، وكاد يكون ملك الحيرة مراوحا بينهما، وكان أهل البيتين جميعا من المقربين إلى كسرى، وكان عدي أستاذ النعمان ومربيه ومؤدبه ومقومه - هو وأهل بيته.
وهذه منزلة تؤهل الناس لحسد الناس. وهي إن جعلت من الأصدقاء كثيرين فهي تجعل من الأعداء الشانئين كثيرين أيضا. ويجب هنا أن نعرف شيئا، وهو أن أصدقاء الرجل النبيل الخدوم إنما يكونون من العامة وأمثالهم - هؤلاء الذين يرجع عليهم فضله ويهب لهم قواه، أما الرؤساء أمثاله والسادة أمثاله، فهم يشنأونه لمنزلته ومكانته وكرامته، ويسعون جاهدين كائدين حتى يخلو لهم الجو وتعبد السبيل.
وقد كان لعدي بن زيد أخوان، أحدهما اسمه عمار ولقبه أبي، والآخر اسمه عمره ولقبه