للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقبل سفره بأيام، قصدت إليه عن جريدة (البلاغ) أتحدث إليه في سفره ومهمته، وموضوع بحثه. فلما تحدث إلى في ذلك بما كفاني طلبت منه صورته لأنشرها مع حديثه، فعند ذلك رأيت وجهه قد كسته حمرة وقال: وهل أنا رجل كبير حتى تنشر صورتي في الصحف. . .؟ ومع أني حاورته في ذلك محاورة شديدة وألححت عليه إلحاحا شديدا فإنه غلبني بقوله: أرجوك أن تقدر رغبتي وتعفيني من هذا الطلب. فأعفيته وقد زاد إعجابي به وحبي له.

ولكن هذه الصفات نفسها، من الحياء، والتواضع، ورقة العاطفة، وحب الخير، وهي كلها فضائل، كانت سببا في متاعب عاتية وقع فيها وهو شيخ للأزهر. وتعبيري بكلمة (متاعب) فيه كثير من التساهل، وعندما يكتب تاريخ هذه الفترة، التي قضاها الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر، سيعرف الناس أي ظلم، وأي مضض، لقيه الشيخ في مشيخة الأزهر، لبعد، أو تناقض ما بين طبيعته وبيئته إذ ذاك.

ذهبت إليه، بعد عودته من الحجاز، وكان أمير الحج في سنة ١٩٤٦ وقبل أن يؤوب إلى مكتبه، وكان في نفسي كثير من الضيق، بسبب أشياء ظالمة كتبها عنه رجال من شيوخ الأزهر، فأخبرته بها وقلت له: إن هذا الذي أحدثك به، كتبه القوم بأسمائهم وأعلنوه على الناس، وهو متداول بينهم مشهور. ولولا ذلك ما حدثتك به. فغضب رحمه الله حتى اضطرب، وفارقه أنسه، وظهر عليه الضيق حتى أشفقت عليه. ثم قال بإصرار وحزم: لن أسكت على ذلك.

وبعد أيام رجع إلى مكتبه، وجاء إليه الشيوخ الذين كتبوا فيه ما كتبوا، وكان قد قرأه، فاستقبلهم مرحباً، وآنسهم، واستبقاهم، وودعهم إلى باب حجرته شاكراً، مكرراً شكره.

وقد عرفني الشيخ، وعرفته دهراً طويلا، وأحببته، وكيف لا أحبه؟ ثم وقعت في نفسه نحوي جفوة لم أدرك أسبابها إلا بعد موته. فعسى أن يغفرها الله لي، وأن يغفرها لي الشيخ أيضاً؛ فقد كان يغفر، حتى لظالميه.

هكذا كان الشيخ مصطفى عبد الرازق في شبابه، وهكذا كان في كهولته وشيخوخته.

رجل وهبه الله أجل هباته من الجاه، والمال، والمجد. ووهبه أجمل هباته من الخلق الطيب والحياء الجميل، الذي يزيد صاحبه رفعة، ومهابة، ومحبة. وجعل حياته كلها مثلا كريما للعمل الخير الدؤوب الذي يصدق أن يقال في صاحبه إن يسراه لا تعرف ما تقدمه يمينه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>