للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وإذا تأملنا الفكر واللغة وجدنا أن كل واحد منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. فاللغة في نشأتها تخضع إلى مدى بعيد للنشاط الذهني والميول والاتجاهات النفسية. وما لغة الأطفال إلا حركات وإشارات تبعث عليها غرائز واستعدادات، يدفع الطفل يده إلى الأمام مشيراً إلى التقدم إلى الخلف، أو مشيراً إلى التراجع، وكل تلك حركات تعبر عن انفعالات داخلية. ولا تلبث هذه الحركات أن تتحول إلى إشارات، والإشارات إلى أصوات، والأصوات إلى ألفاظ وجمل. وبذا تنشأ في تدرجها الطبيعي، وتقوم على أساس سيكولوجي.

لم يؤثر الفكر في نشأة اللغة فحسب، بل ساهم أيضاً بنصيب ملحوظ في حفظها والإبقاء عليها. ذلك لأن تعلم اللغة بين أبناء الجيل الواحد يعتمد على السماع والحفظ، وتبادلها بين الأجيال المتلاحقة لا سبيل إليه إلا بالنقل والرواية. ودعامة ذلك كله الذاكرة والحافظة، ولولا الذاكرة ما كانت لغة كما يقولون. وقد يكون في الكتابة ما يرفع عن كاهلنا اليوم بعض عبء الاحتفاظ باللغة، ولكن كم من جماعات عرفت لها لغات تداولتها وتوراثتها دون أن يكون للكتابة فيها أثر ملحوظ، وإنما عولت على الذاكرة وحدها. وكلنا يعلم أن قوة التذكر أوضح في حياة البداوة منها في حياة الحضر، لأن المتحضرين في اعتمادهم على القلم والقرطاس يضعفون الذاكرة ويقللون استخدامها. على أن الكتابة نفسها لا يمكن أن تتعلم وتكتسب إلا بقسط ضروري من الحفظ والتذكر.

وللحياة الفكرية أثر آخر في نهضة اللغة ونموها، إذ لولا تجدد المعاني وتباينها ما تجددث الألفاظ، ولا تنوعت التراكيب. ولولا عمق الفكرة وتحددها ما كانت دقة اللفظ وتخيره. وكم يشعر المتكلم أو الكاتب أن اللفظ أو التعبير الذي استعمله لا يؤدي تماماً المعنى الذي يريده، فيحاول البحث عن غيره ليكون أكثر ملاءمة. وثروة اللغات تتفاوت فيما بينها تبعاً لنشاط الحياة الفكرية وتقدم العلوم والفنون. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى أن عصر ازدهار اليونانية قد اقترن بتلك النهضة الفلسفية والفنية التي عرفتها أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وقد لوحظ أيضاً أن أسماء الذوات تغلب أسماء المعاني في اللغات البدائية، لأن البدائيين لا يلجئون كثيراً إلى التعميم والتجريد. وتساهم فكرة الزمن بنصيب أوضح في لغة المتحضرين منها في لغة الشعوب الهمجية. وتبادل العلوم والفنون بين الأمم لا يقتصر على تبادل الأفكار، بل يصاحبه أيضاً تبادل بعض الألفاظ والأساليب الدالة

<<  <  ج:
ص:  >  >>