وللغة بدورها أثر قوى في التفكير، فهي إلى مدى بعيد مادته ودعامته؛ ذلك لأن الدال والمدلول متلازمان، وقل أن يستحضر أحدهما في الذهن بدون الآخر. وقد سبق لأرسطوا أن قال تلك الجملة المشهورة التي قدر لها أن تحيا مع الزمن، وهي: ليس ثمة تفكير بدون صور ذهنية. وفي مقدمة هذه الصور تجيء طبعا الرموز اللغوية. ولم يحاول أحد نقض هذه القضية إلا في القرن التاسع عشر، يوم أن جاءت مدرسة فورتسبورج، وذهبت إلى أن هناك ضرباً من التفكير مجرداً من تلك الصور الذهنية، كتفكير الأطفال الذي تمليه طائفة من الميول والغرائز، أو كتلك اللمحات والخواطر التي تمر بالذهن عابرة وكأنها معنى مجرد من كل كساء.
ودون أن نقف طويلا إزاء هذين الرأيين المتقابلين، نود أن نلاحظ فقط أن الحدس ليس إلا ضرباً من التفكير. وهناك ضروب أخرى ذات حلقات لا يمكن ربط بعضها ببعض إلا بواسطة الرموز اللغوية.
على أن الحدس نفسه قد يستصحب لفظاً أو ألفاظاً، ولذا قالوا إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالتفكير السامي أو التفكير المنطقي الذي هو سلسلة من الحكم والاستدلال لا غنى له عن اللفظ والعبارة.
والألفاظ فوق هذا هي الوسيلة لتحديد الأفكار وتميز بعضها من البعض. وإذا كانت المدلولات متنوعة، فأن اللازم أن تتنوع الدوال تبعاً لها. ولا شك في أن الأفكار متفاوتة معنى ومدلولا، عموماً وخصوصاً، جنساً ونوعاً. ولولا الألفاظ ما أمكن تقسيمها وتصنيفها، ولا تحليلها وتركيبها. وآية الفكر الدقيق تعبير دقيق يؤديه. والعبارة المحكمة تؤدي عادة إلى تفكير محكم، وبذا تنوعت العلوم، وتحددت موضوعاتها، وامتاز كل منها بمصطلحاته. وما العلم إلا لغة أحكم وضعها.
واللغة أخيراً سبيل تداول الأفكار وتبادلها، فهي التي تنقلها من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى جماعة، وإلا بقيت وقفاً على أصحابها ومحبوسة في أذهانهم. وإذا كان التفكير الفردي