ثم انتهى به إلى الحرة، وقد جلس فيها الأمير سعيد بن العاص ووجهاء المدينة، وأقيم المسوّر ليقول كلمته. وقام إليه رسول معاوية فعرض عليه عشر ديات من خالص مال أمير المؤمنين، فأباها، فعرض عليه سعيد ووجهاء المدينة أضعافها فأبى إلا قتل هُدبة. . .
فاصفرت وجوه الناس، وودوا لو حالوا بالقوة بين هُدبة وبين القتل، ولكن حجزهم احترام الحق، ومنعتهم هيبة الدين فلبثوا صامتين كأن على رؤوسهم الطير، ونظروا إلى هُدبة. فرفع رأسه وأنشد بصوت شجي رائع:
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح
وقبل غد يا لهف قلبي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
إذا راح أصحابي تفيض نفسي ... وغودرت في لحدٍ على صفائحي
يقولون هل أصلحتم لأخيكم وما ... القبر في الأرض الفضاء بصالح
فضج النسوة بالبكاء، وماج الناس، فأشار إليهم فأسكتهم، وخاطب امرأته وكانت من أجمل النساء وكان أجدع:
أقلّي على اللوم يا أم بوزعا ... ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا
ولا تنكحي أن فرّق الدهر بيننا ... أغمم القفا والوجه ليس بأنزعا
ضروباً بلحييه على عظم زوره ... إذا الناس هشوا للفعال تقنعاً
وحلى بذي أكرومة وحمية ... وصبر إذا ما الدهر عضّ فأسرعا
وعَرَى الناس صمت عميق، وأقبلوا ينظرون بماذا تجيب هذه المرأة: أتفي وهي الشابة الجميلة الفاتنة لرجل أجدع هو الساعة ميت، وتقيم علي عهده، وتحرم على نفسها من أجله الرجال، أم هي تعده وتمنيه، حتى إذا مات انطلقت فتزوجت؟ وجعلوا يتهامسون، ويتقولون. . .
أما هي، فلم يكن منها إلا أن مالت إلى رجل، فسألته شيئاً، ثم أرسلت ملحفتها على وجهها هُنية، ثم عادت فإذا. . . فإذا هي قد جدعت أنفها، وقطعت شفتيها. . .
وقالت: يا هُدبة! أتراني متزوجة بعد ما ترى؟. . فقال: لا، الآن طاب الموت، ثم أستأذن في ركعتين فصلاهما وخفف، ثم التفت إلى من حضر، وقال: والله لولا أن يظن بي الجزع لأطلتها، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما