قصدت مكة لتخريبها في وقعة الفيل المعرفة، وقد انتهت هذه الوقعة بهزيمتها على ما هو معروف في التاريخ، ثم كان أن قام سيف بن ذي يزن من بقايا الحميريين يحاول استعادة دولتهم، ولم ير وسيلة إلى هذا إلا أن يستعين بالفرس أعداء الحبشة والروم، فأمدوه بجيش أمكنه أن يخرج الحبشة من اليمن، وأن يقيم سيف بن ذي يزن ملكا على دولة آبائه، وكان لذلك رنه فرح في الحجاز وغيره من بلاد العرب، فأتت الوفود من هنا وهناك لتهنئته باستعادة ملك الحميريين وكان منها وفد الحجاز على رأسه عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بين رجاله أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر، فهنأه بقوله:
لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن ... في البحر خيم للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شاِلت نعامته ... فلم يجد عنده النصر الذي سالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
إلى أن قال:
فالقط من المسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك أشبالا
وأشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ولكن كسرى الفرس لم يقدم هذه المساعدة لسيف بن ذي يزن خالصة لوجه الله تعالى، بل كانت في نظير خراج من اليمن يؤدي إليه كل سنة، فكان سيف بن ذي يزن يؤديه إليه، وكان جيش كسرى الذي أعاد إليه ملك اليمن يشاركه في حكمه، فلما توفي ضم الفرس إليهم ملك اليمن، وصار الذي يتولى أمره واحد منهم، ولم يستفد أهله من حركة سيف بن ذي يزن إلا أن استبدلوا ملك الفرس بملك الحبشة.
فلما أتى الإسلام لم يرض أن يقف كما وقف العرب ذلك الموقف المعيب من تينك الكتلتين، لأنه لا يليق أولاً بالعرب كأمه يجب أن ترعى كرامتها ومصلحتها قبل غيرها، ولا يصح أن تجعل فريقاً منها ذيلاً لدولة الروم، وفريقاً آخر ذيلاً لدولة الفرس فينقسم بعضهم على بعض في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ثم لا يليق ثانياً بدين أتى للسلام والتعارف وهداية الناس كافة أن يشترك في هذه الحروب المفرقة الآثمة، لأنها لم تكن قائمة لغرض