شريف، وإنما كان يقصد منها توسيع السلطان، وبسط سيادة الأقوياء على الضعفاء، ليعظم الخراج الذي يجبونه منهم، ويتوسعوا في الترف الذي ينفق فيه ذلك الخراج، فيزداد الأقوياء غنى وطغياناً، ويزداد الفقراء فقرا ومذلة.
فآثر الإسلام أن يقف موقف الحياد من تينك الكتلتين، لا يهمه إلا غايته الشريفة التي يسعى إليها، ولا ينظر إليهما إلا في حدود هذه الغاية، وفي حدودها كان حياده فيه شيء من العطف نحو دولة الروم، لأنها لم تكن حينئذ تملك إلا قليلاً من بلاد العرب، وكانت بلاد الشام التي تقوم فيها دولة الغساسنة لا تعد من بلاد العرب في ذلك الوقت إلا على نحو التجوز، أما دولة الفرس فإنها كانت متسلطة على كثير من بلاد العرب، ولم يكن خالصاً من سلطتها إلا بلاد الحجاز ونجد، وكان الإسلام يرى أنه سيقوم أولاً على أكتاف العرب، لنشأته بينهم، فلم يرتح لاستيلاء الفرس على هذه البلاد التي يعدها وطنه الأول، وهذا إلى أن الروم كانوا أهل كتاب، فكانوا أقرب في العقيدة إلى الإسلام من الفرس.
وكان من مظاهر عطف الإسلام على دولة الروم أن حزن المسلمون وهم بمكة قبل الهجرة على غلبة الفرس لهم، حتى نزل في هذا قرآن يعدهم بنصر الروم على الفرس، وذلك قوله تعالى في أول سورة الروم.
(ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، بنصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
وقد مكن ذلك موقف الإسلام من تينك الكتلتين إلى أن صار له شيء من القوة بالمدينة، ورأى أن يدعو رؤساء تينك الكتلتين إلى أمر تجتمع عليه كلمتهم، وتبطل به هذه الحروب بينهم، فيسود السلام بين الشعوب البشرية، وتقوم بينهم علائق الصفاء والمودة، ولا يكون هناك أقوياء يتحكمون في الضعفاء ولا أغنياء مترفون، وفقراء مدقعون، بل يعيش الضعفاء بجانب الأقوياء ولهم مثل حقوقهم، ويعيش الفقراء بجانب الأغنياء قريباً من عيشهم، حتى لا يكون هناك فارق كبير بين هذه الطبقات، ولا يعيش الأقوياء والأغنياء في نعيم وترف، والضعفاء والفقراء في حرمان وبؤس.
وقد وقف الإسلام بهذا موقفاً كريماً بين تينك الكتلتين، ولكنه لم ينل منهما ما يليق به من