حياته، وينقله من الخفض الناعم، إلى الجدب الموحش ويجسم له أشجانه فتصبح أشباحا قاتمة، تطوف أمامه موترة بالسواد، وتظل طيلة ليلة عابرة أمام عينيه، تشرد نومه، وتهيج بلابله،!! وصاحب الديوان أحد هؤلاء الرازحين في ليل من البلابل والشجون، وتظهر ميزته الأولى في دقة التحليل وعمق الاستقصاء، حين يتحدث عن أشجانه ورزاياه!! فيصف لك البوم الذي ينعب في صدور مولولا، ويسمعك الصخب الهائج بين الضلوع في ظلمة الليل وقد سكنت حركة الأحياء والأشياء، ويربك الأشباح المتواكبة أمامه، وقد ملأت مسامعه بالزمام والرعود، وأسلمته إلى الذكريات البعيدة والقريبة فيعيدها ضعيف الجرس، حار الأنة، وقريبها صاخب ملحاح شديد اللوعة والغرام، والشاعر في حيرة مقلقة بين القريب والبعيد، ولن تقف هذه الحيرة أمام شاعريته، بل أفسحت له مجال الوصف والتحليل فاندفع يقول:
لها صخب خلف الضلوع مبعثر ... فمن ناعب يذكي الأسى ويغوم
كأني ناي في يد الليل جائش ... بما في الورى من رائع ودميم
إذا أذهب الليل الحياة أعادها ... قيامي على أعبائها ولزومي
ألا شد ما أوقرت نفسي بفادح ... أنوء به تحت الظلام جسيم
وأشباح ليل ما تني في هتافها ... أذنت لها من بعد طول وجوم
ففي الشرق منها هاتف بزمام ... وفي الغرب منها هاتف بهزيم
وطورا يشق الليل داع مرزأ ... بصوت من البعيد السحيق سقيم
له أنة حري على ضعف جرمها ... كأنه مصدوع الفؤاد كليم
وتصخب طورا حين أصغى لها معاً ... فأمسي كأني في مناحة يوم
من الطارق المحاح بأبي، وللكرى ... يد في الدجى ألوت بكل نؤوم
وكثير من الناس يسهرون الليل ساهمين محزونين يفكرون في حظوظهم العاثرة، وسيجدون صورة ما يعتادهم من الشجن والرعب في هذه الأبيات، ونظائرها من الديوان، وكم للنفس من خلوة رهيبة، تكنفها الوحشة، وترتعد لها الفرائص الصلاب، ولا فرق بين المسير في غابة رهيبة نائية، وبين التسرب في أعماق الشجون، وتذكر المصائب والويلات، والحزين