للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من هواجسه في مأسدة عالية الزئير، مرتفعة الصياح، فليس عجباً أن يسمع الشاعر في وحدته الساكنة، ومناحة البوم، ورنين الأنات، ويرى تواثب الأشباح أسرابا خلف أسراب!.

وقد استعان الأستاذ الصمدي بخياله المجنح الطائر، فنظم ملحمة طويلة يصف بها يوم البعث كما ينطبع في مخيلته، ولم يشأ أن يصور حلقات سريعة لما يتخيله من الحوادث والوقائع فحسب، بل أراد أن يبرز فلسفته في الحياة والناس في جو من الإيحاء والإبهام، ولم يفارقه تشاؤمه المرير قيد لحظة، بل ظل يظفر بين سطوره من بيت إلى بيت دون أن يخلد إلى الراحة والأطمئنان، بل إن الملحمة تدور حوله رائحة غادية!! فحين نفخإسرافيل في الصور، ونهضت الرمم البالية من الأجداث، وهبت هبوب الذبا فوق المروج والأعشاب، ودبت الحياة على الأرض من جديد، حين كان ذلك، فزعت الملائكة في السماء، وجعلوا يتساءلون عن هذا البعث في قلق وإشفاق؟ كيف حان على غير أهبة؟ وما مصيره وعقباه؟ ولأي غاية كان؟!! ولجئوا إلى إسرافيل يستفسرون عما صنع من جليل الخطوب حين نقر في الناقور، وقد توجسوا الشر إذ أنذرهم ببعث الآدميين من جديد، وظنوا الأظانين بأبناء حواء، واندفعوا يقولون في حسرة وإشفاق.

رويدا ملاك الصور ماذا تقوله ... أهبوا على الطبع القديم المدابر

إذن سوف ينضون السلاح كعهدم ... غلابا على الأخرى غلاب المغاور

فلن يجنحوا للسلم والطبع قائد ... يجاذبهم حرص النفوس الغرائر

غرائز غشت تحتها مشرق الحجى ... ورانت على الأبصار فوق البصائر

وليس الحجى كالطبائع فيهم مؤصلا ... ولكنه للمرء إحدى المفاخر

مضى الناس طرا ما ألموا بقدسه ... سوى نفر منهم قلال عباقر

وسائرهم أسرى الغرائز خطهم ... عليهن من مأثوره - حظ تاجر

وهذه النظرة الجاحدة للإنسان تجد ما يبررها لدى الشاعر من واقع عيشه، وظروف حياته، فقد نازعه بعض الموسرين منازعة قضائية، واغتصبوا منه ظلماً ما لا يجوز أن يقربوه في شيء، والتبس الأمر على القضاء فأيدهم بسلطان القانون، ولم يجد الشاعر غير القريض ينفس به عن ذات صدره، ويبثه تباريحه ومواجعه، فامتلأ ديوانه بهذه القذائف الصائبات.

وقد وفق الأستاذ الصمدي في ملحمته هذه ملحمته هذه توفيقنا حميدا، فبرزت ميزته الثانية

<<  <  ج:
ص:  >  >>