للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فقربه إليه وأذن له بالدخول إلى دار كتبه، وكانت عامرة بنوادر الأسفار في كل علم وزمن، فوعى ما فيها من كتب الطب والفلسفة وما بعد الطبيعة على ظهر قلبه. ثم أصابتها النار عمداً أو خطأً فلم تبقي منها على ورقة! فانفرد الشيخ المخبوءة في صدره، وكانت هذه النكبة العلمية من مزاياه على غيره!

ثم توفى أبوه وضعف شأن أميره فاضطربت به الأحوال، وتدفقت عليه الأهوال، فخرج وهو في الثانية والعشرين من عمره إلى قصبة خوارزم فأقام بها يسيراً في كنف أميرها علي بن مأمون، ثم غادرها إلى جرجان فثقف بعض الناس، وألف بعض الكتب. ثم انقلب إلى همذان فوزر لشمس الدولة بن بوية. فلما توفى هذا الأمير وخافه ابنه تاج الدولة صرفه عن عمله، ففرغ للبحث والتأليف، وصنف في هذه الفترة أعظم كتبه. ثم نشب الصراع بين أمير همذان وأمير أصبهان فأتهم بالدعاية إلى علاء الدولة، وطلبه تاج الدولة فاختبأ في حانوت صيدلي حتى وقعت العيون عليه فسجنه في إحدى القلاع. فأنشأ في ذلك قصيدة منها هذا البيت:

دخولي باليقين كما تراه ... وكل الشك في أمر الخروج

وظل في السجن أربعة أشهر حتى استطاع أن يفر متنكراً في زي الصوفية إلى علاء الدولة بأصبهان فأقام في حماه وادع النفس، يؤلف ويختصر، ويحاضر ويناظر، ويعترض ويجيب. واتفق ذات ليلة أن جرى في مجلس الأمير حديث في اللغة شارك فيه ابن سينا، وكان أبو منصور الجبان حاضراً، فأنكر عليه أن يتكلم في غير علمه، فانف الشيخ من هذا الإنكار وعكف على دراسة اللغة ثلاث سنين حتى بلغ منها موضعاً جليلاً أهلهلان يؤلف فيها كتاباً سماه لسان العرب لم يؤلف مثله قبله أحد! وهكذا انقضت تلك السنين الأربع والخمسون في عمل لا يفي، وسعي لا يني، وعذاب لا يرحم وصراع لا يهادن، وحظ لا يساعد، وولوع بالنساء لا يهدأ، ونزوع إلى الشراب لا يكف، حتى وهن الجسم القوي، ووهن العزم الشديد، ونزلت بالغطاسى العظيم علة نكل عنها تدبيره وطبه!

كان الشيخ الرئيس برد الله ثراه آية من آيات الله في لقانة الذهن وأصالة العقل وقوة الحافظة ونفاذ الهمة. اكثر علمه من اجتهاده، وأنجع طبه من تجاربه، واجل كتبه من حفظه. وكان على استبداد عقله بفكره، وطغيان علمه على فنه، صاغي القلب للدين، صافي

<<  <  ج:
ص:  >  >>