حاد عنها، ثم يعرض على الناس شعره فيما اختار من موضوع وأسلوب في الوزن والقافية. فإذا ثار الناس عليه جادل عن نفسه وأوضح حجته. والأدب فيما أحسب يؤثر فيه الاستطراف، فقد يغير الشاعر أسلوبا طال عليه العهد ومله الناس، وقد يرجع الناس إلى الأسلوب المهجور بعد حين فيستطرفونه. فالتغيير في الأدب واسع المجال ولكن ينبغي أن تحسن الحاجة إليه وتستبين سبله.
الأدب العربي تقلب في أطوار مختلفة. وابتدعت فيه بدع كثيرة ولكن لم نسمع إن المبتدعين مهدوا لابتداعهم بمعركة كلامية في القديم والجديد، نظم ابن المعتز موشحه، وافتن المغاربة في الموشحات افتنانا خرج بها عن الأوزان والقوافي المألوفة، ومضى الناس على هذا ولم يمهد لهذا الابتداع بثرثرة في التجديد، ولم يكن للمجددين من حجة إلا أن ألقوا إلى الناس موشحاتهم تحتج لنفسها. وكذلك نظمت قصص كليلة ودمنة وغيرها في القافية المزدوجة، ولم يكن هذا معروفا من قبل، وكتب بديع الزمان الهمذاني مقاماته وهي طريقة جديدة، وما عرفناه أن تقدم هذا وذاك جدال أجوف ذو دوي كالذي نسمعه في هذا العهد والمتنبي ذهب في الشعر المذهب الذي ارتضاه ثم قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر القوم جراها ويختصم
المعري ملأ شعره بالفلسفة وأمور لم يألفها الشعر من قبل وكتب رسالة الغفران على غير مثال فما دعا إلى طريقته ولا جادل فيها أحدا. وما أحسب لامرتين الشاعر الفرنسي حين نشر (التأملات) قد أجهد نفسه في الدفاع عن نفسه، والهجوم على مخالفيه. هذه هي الطريقة المثلى التي تجنبنا المعارك الضالة والكلام المتهاتر، والحجج المبهمة، حين يدور الجدل علىأمر مشهود بين يمد الكلام، ويقصر النزاع، ثم يكون المثال الجديد حجة لنفسه تسد السبل على المعاندين والمغالطين. هذه هي الطريقة المثلى. وأما الجعجعة بغير طحن، أو جعجعة في طحن الكلام، وإثارة الخصام جناية على القارئين، ومضلة للباحثين.
إنما يكثر تحدث الإنسان عن صحته حين يعتل، وأما الصحيح القوي فهو عامل جاهد، ماض في سبيله لا يقيس كل خطوة بنصح الأطباء، ولا يزن كل أكلة بما أعطي من الدواء. وكذلك أعجز الناس عن الابتكار والإتقان أكثرهم ضوضاء وسخرية وافتراء وادعاء. أعود إلى مقال الأستاذ احمد امين، بعد أن ند القلم في الكلام عن التجديد