للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وما كان محمد عابثاً قط ولا شابت أقواله شائبة لهو أو لعب، بل إنه كان ينظر إلى الأمور نظرة جد ثاقبة، ممزوجة بالإخلاص الشديد والجد المر، فلقد كان الأمر إما أمر فلاح وإما أمر خسران، والحياة إما حياة بقاء أو حياة فناء. أما التلاعب بالأقوال والاستشهاد بالقضايا المنطقية والعبث بالحقائق، فلم يكن من شأنه قط ولا عرف عنه شيء من هذا أبداً، فإن ذلك التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية. . . عندي لمن أفظع الجرائم وأكبر الدلائل على كذب المرء وعبثه. إذ أن هذه الأشياء ليست إلا رقدة القلب ووسن العين عن الحق، وبرهان على عيشة المرء في مظاهر كاذبة، وليس يستنكر من إنسان يتخذ التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية، هو أن جميع أقواله وأفعاله أكاذيب وأضاليل؛ بل إنه هو نفسه أكذوبة، إنه إنسان كاذب ولكنه مصقول اللسان مهذب القول، يلقى احتراماً في بعض الأزمان وبعض الأمكنة، لا تؤذيك بادرته، لأنه لين الملمس رفيق المس، لكنه كحمض الكربون تراه على لطفه سماً نقيعاً وموتاَ ذريعاً، والأدهى من ذلك أن خصلة المروءة والشرف - شعاع الله في مخلوقاته - نجدها متضائلة في ذلك الإنسان كما أنه يكون مضطرباً بين عوامل الحياة والموت.

أما محمد ذلك الرجل العظيم فإنه من المحال أن يكون كهؤلاء الميتين القلوب الذين لا يعرفون الطريق إلى الله. إنه من المحال أن يكون كاذباً مثل هذا الرجل الكبير؛ فإني أرى الصدق أساسه وأساس كل ما جاء به من فضل ومحمدة. وعندي أنه ما من أحد من الرجال الذين يسمونهم العظماء أمثال - نابليون أو بارنزا أو كرموبل أو ميرابو وغيرهم -، ينال النجاح والفوز في عمل يقوم به إلا إذا كان الصدق والإخلاص وحب الخير أول بواعثه على محاولته فيما يحاول، أي أن صدق النية والجد في الإخلاص، بل أقول إن الإخلاص - الحر العميق الكبير - هو أول خواص الرجل العظيم وأهم صفاته. وأنا إذا قلت الرجل العظيم، لا أريد به ذلك الرجل الذي لا ينئي يفتخر أمام الناس بإخلاصه، كلا فإن ذلك الرجل ليس عظيماً بل هو حقير جداً، وإخلاصه إخلاص سطحي لا يقصد به نفع الآخرين، إنما يبتغي به منفعة نفسه، وهذا الإخلاص هو الغالب، إنما هو غرور وفتنة.

أما إخلاص محمد ذلك الرجل العظيم، فقد كان لا يتحدث عنه ولا يفتخر به، بل ربما كان في بعض الأحيان يشعر من نفسه بعدم الإخلاص إذا كان يرى غيره لا يستطيع أن يلتزم

<<  <  ج:
ص:  >  >>