للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

منهج الإخلاص يوماً واحداً فكان يلجأ إلى ربه الذي لا ملجأ منها إلا إليه يطلب منه أن يرزقه الإخلاص.

لقد كان إخلاص محمد غير متوقف على إرادته، فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لم يرد، وكيف لا يكون مخلصاً إخلاصاً حقيقياً، وهو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله، ولا يستطيع أن يغمض عينيه على جلالها الباهر، وهو يرى الكون مدهشاً ومخيفاً حقاً كالموت وحقاً كالحياة، وهذه هي الحقيقة التي لم تفارقه أبداً وإن فارقت أكثر الناس، فساروا على غير هدى، وخبطوا في دياجير الظلام وغياهب العماية والضلال، وهكذا خلق الله محمداً ذا عقل راجح ونظر ثاقب، وإخلاص في غير تفاخر، وهذه هي أهم أسباب العظمة.

كانت الحقيقة الكبرى ماثلة دائماً نصب عينيه، حاضرة أبداً في ذهنه كأنها منقوشة بحروف من اللهب، وهذه هي أولى صفات العظيم، وبها يمتاز ويعرف. وهي ما أمتاز به محمد، ولا أنكر أنها قد تكون موجودة في الرجل الصغير، لأن كل إنسان خلقه الله جدير أن توجد صفة الإخلاص في نفسه، ولكنها قد تكون وقد لا تكون. أما الرجل العظيم فإنها من لوازمه؛ بل إن الرجل العظيم لا يكون عظيماً إلا بها، وإني أرى أن من أسباب عظمة محمد أنه كان نافذ النظر إلى لباب الحقيقة، يمتاز بنفس شاعرية كبيرة، وآيات تدل على أكرم الخصال وأشرف المحامد، وإني كلما قرأت عنه تبين لي فيه عقل راجح وفؤاد صادق وعين بصيرة، ورجل عبقري لو أنه أراد أن يكون شاعراً لكان من فحول الشعراء، ولو شاء أن يكون فارساً لكان من أشد الفرسان شكيمة، ولو ابتغى ملكاً لكان ملكاً جليلاً مهيباً، ولو أحب أن يكون أي شيء من كل هذا لكانه بغير أن يكلفه أي مشقة أو عناء.

وأي دليل على عظمته وصدق نبوته أقوى من نظرته إلى الكون، فلقد كان العالم في نظره معجزة كبرى تدل على خالق الكون العظيم. كان ينظر إلى الكون فيرى فيه غير ما كان يراه أعاظم المفكرين من الذين كانوا يقولون إن العالم في الحقيقة لا شيء أما محمد فقد كان يرى العالم آية منظورة ملموسة على وجود الله، بل إن ظل الله علقه على صدر الفضاء، وكان يقول: إن هذه الجبال، هي أوتاد الأرض، وهي رغم عظمتها وشموخها ستذوب وتصير كالعهن المنفوش في يوم القيامة (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال

<<  <  ج:
ص:  >  >>