وأنه صديق الملك النعمان - من مآثم وجرائم ودس ومكائد، أطلع على بعضها وسمع ببعض آخر.
ولعل من بواعثه أنه كان رجلاً مثقفاً أديباً. ومثل هذا يتدبر في أحوال الناس وحوادث الأيام، ويتبصر فيها، ويفكر فيمن نزلت بهم. ومثل هذا يكون ذكي القلب مرهف الحس رقيق العاطفة. وأنت تعلم أن الارتحال يكسب الإنسان الخبرة، وتعلم أنه يصقله ويهذبه، وتعلم أنه يفسح مجال تفكيره ويزيد في معرفته. وأنت تعلم أن عدياً كان عالماً بالفارسية، وعالماً بالعربية، فهو قارئ كاتب مطلع على أخبار من تقدموه.
ولعل من بواعثه أن ملك الحيرة كان في أيديهم - في يد زيد أبي عدي - قبل المنذر أبي النعمان، ثم تولاه عنه المنذر. وعلاوة على هذا فإن أهل الحيرة ولوا زيداً أبا عدي الحيرة وأبقوا أسم الملك للمنذر بعد أن غضبوا عليه وثاروا به. فهم كانوا ملوكاً حيناً. ثم كانوا شركاء في الملك حيناً آخر. ولا يبعد أن يطمح شاب كعدي إلى مثل هذا، فإذا ما غلب على أمره، وإذا لم يظفر بما يريد، وإذا كان ملك الحيرة خالصاً للنعمان، فإن هذا قد يخلف أثراً سيئاً في نفس عدي، يدعه يجتر أفكاره وآماله، ويجعله ينظر إلى الحياة بمنظار قاتم.
يبدو أن حياة عدي لم تكن سهلة، بل كانت معقدة، وكانت لا تسير على ما يهوى. ويبدو أنه كان يبذل نشاطاً كبيراً ولكن هذا النشاط كانت تعترضه مشقات كثيرة. لقد كان يكافح غير أنه لم يكتب له الظفر ولم تدنه الأيام مما يريد. وتأمل هذه الأبيات:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... فلما غلت في اللوم، قلت لها اقصدي
أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد
أعاذل من تكتب له النار يلقها ... كفاحاً. ومن يكتب له الفوز يسعد
أعاذل قد لاقيت ما يزع الفتى ... وطابقت في الحجلين مشي المقيد
أعاذل ما يدريك أن منيتي=إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوال قد أتت قبل مولدي
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد
تأمل هذه الأبيات فستجد في نفس هذا الشاعر شياً يريد أن يفصح عنه، شيئاً تعجز الأبيات عن احتماله والإبلاغ عنه، معنى مخنوقاً من طول ما توارت عليه الأيام بالطعن والتنكيل.