وهو قد قرأ عن الغابرين الأول، وأمتحن الدنيا حتى تكشفت له عن لون قاتم وقد ذكر في شعره بعض ما عرف. وأظنك سمعت عن قصة الزباء وجذيمة وقصير الطالب بالثأر. وهذا عدي يقصها علينا في شعر له، ويذكر كيف خدعت الزباء جذيمة وأردته، وكيف قام قصير يطلب بالثأر حتى جدع أنفه بالموسى، وكيف ساق إليها العيس بما دهاها وأذلها، وكيف جعل الفرسان في مسوح الرهبان، على حين لم تتوقع من قصير هذا أذى ولا ضراً على فرط حذرها من الناس:
أطف لأنفه الموسى قصير ... ليجدعه، وكان به ضنينا
فأهواه لمارنه، فأضحى ... طلاب الوتر مجدوعاً مشينا
وصادفت امرأ لم تخش منه ... غوائله، وما أمنت أمينا
إذا ما أرتد عنها أرتد صلباً ... يجر المال والصدر الضغينا
وقد هلك جذيمة وهلكت الزباء. وهكذا الحوادث والمنايا لا يعفين أحدا من الابتلاء بهن، وإن كان مجدوداً فهن يتركنه إلى حين:
وأبرزها الحوادث والمنايا ... وأي معمر لا يبتلينا
إذا أمهلن ذا جد عظيم ... عطفن له ولو في طي حينا
ولم أجد الفتى يلهو بشيء ... ولو أثرى، ولو ولد البنينا
وأقرأ هذه القصيدة فهي تكشف أيضا عن تشاؤم عدي وشجنه، وسوء ظنه بالأيام. وتدل
على مدى معرفته بما حوله ومن حوله. وتدل على إلمامه بشؤون كثيرة:
أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... أم؟ بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن؟ أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟
أين كسرى؟ كسرى الملوك أنوشر=وان؟ أم أين قبله سابور؟
وبنو الأصفر، الكرام، ملوك الر ... وم، لم يبق منهمو مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبي إليه والخابور
شاده مرمرا، وجلله كلسام ... فالطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون، فباد ال ... ملك عنه، فبابه مهجور