قال لصاحبه: إنني أعرف (الأمين). ذلك الوغد الزنيم. . عليه رحمه الله! وأدركا الموكب وقد بلغ المقادير، وحط النقش على الأرض، ووقفت أم الفقيد وزوجته وأختها تذر فإن الدمع الهتون - تبعاً - وما إن أنزل النعش في القبر حتى أعولت زوجه وصاحت باكية: دعوني أرحل معه. إلا أنها لم ترحل معه؛ مع أن أحداً ممن حولها لم يحل دون ذلك. ولعل ما حال دون أن تشاركه رمسه ذلك الراتب التقاعدي الذي ستتناوله. أما (زابوكين) فقد سكت حتى شمل الجمع السكون، فأدار بصره في الحاضرين وبدأ خطبته قائلا:
يا ترى أبصري وسمعي صادقان؟! أنني أشهد حلماً مرعباً يبدو لي فيه هذا الرمس المظلم الرحيب وهذا الحشد الباكي الحزين وا أسفاه. . . أنها الحقيقة. فليس ما أراه حلماً، وليست أبصارنا - ويا للأسف - بخادعة. . إن من كان حتى الأمس يفيض صحة ونشاطاً. . قد مات وروى التراب وأصبح ذكرى تستدر الدمع الساخن الغزير. لقد سلبه الردى منا، وهو لا يزال في عنفوان قوته وبهائه. . وأوح فتوته ونشاطه وإن بك متقدما في السن. . أية خسارة منينا بها. . من ذا الذي يستطيع أن يحتل مكانه في قلوب عارفيه. لدينا أيها السادة كثير من الموظفين. . إلا أن (بروكوفي أورزبتش) كان جوهرة يتيمة فيما كان يزدهي به ويفخر. وكان أيها السادة - المثل الأعلى للرجل الكامل الرفيع بخلقه، السامي بنفسيته. لقد كان الفقيد يأبى الرشوة فلم يرضيها يوما. وكثيراً يبدي مقته واحتقاره لمن كان يلح في أخذهاوتقبلها. لقد كان يرفضها كل الرفض ويزري ضعاف النفوس ممن كانوا على نقيضه. كما لا أظنكم تجهلون أنه كان يهب راتبه التافه على مشهد منا لزملائه المعزين وها أنتم الآن تسمعون بآدابهم نحيب الأرامل والأيامي اللائي كن يعشن من فيض إحسانه. لقد ذهب ذلك الذي وهب حياته للبر، نفسه للخير، وإنكم لا تعلمون بلا شك - أيها السادة - أنه كان أعزب ولم يزل كذلك حتى وسد التراب. . إنني لأتصوره الآن بوجهه المشرق الحليق وببسماته الحالمة العذاب، ويخيل إلى أنني أكاد اسمع صوته الرؤوف الذي كان يفيض حنانا ويقطر رقة وإخلاصا. فإلى رحمة الله يا (بروكوفي أوزبتش). . . إلى الجنان الخوالد أيها العزيز. . وداعاً أيها الراحل الكريم. .
وكان الخطيب مبدعا حقا في إلقائه فأحرز بها إعجاب السامعين. . إلا أن العارفين منهم بالميت أدهشهم مما قاله أشياء. ذلك أنهم لم يفقهوا علة ذكر الخطيب أسم الميت على أنه