ترجع صلة الدكتور زكى كبارك بالعراق إلى عهود دراسته الأولى يوم عنى بالأدب العباسي وشغل نفسه أعوام طويلة بأدباء العراق، فبث هذه الدراسة في محبة العراق، واسترعى تاريخه الحافل تفكيره وألهب خياله. وقد خاطب العراقيين ذات مرة في بعض محاضراته العامة قائلاً:(وأنا في الواقع تلميذ بغداد قبل أن أكون تلميذ في القاهرة أو باريس، فإن رأيتم صراحتي فلا تلوموني، فاللوم على أسلافكم الذين شرعوا مذاهب العقل والمنطق)
حتى إذا دعي - رحمه الله - إلى التعليم في دار المعلمين العالية ببغداد سنة ١٩٣٧ رحب بذلك قائلاً: إن من العقل أن اعرف جوانب من الشرق بعد أن عرفت جوانب من الغرب. وصح عندي أن الهجرة إلى العراق قد تشرح دقائق الأدب في العصر العباسي، وليس من المقبول أن يصح لمثلى أن يصف باريس عن علم، ويصف بغداد عن جهل.
وشد رحاله إلى بغداد، فكان لمصر فيها سفير أدبياً ممتازاً، وأحدثت زيارته فيها حركة أدبية ونشاطاً فكرياً بما كان يبثه قلمه - على عادته أيان كان - في صحافة العراق ومجتمعاته وأنديته من حيوية وحركة. (وما هي إلا أشهر قلائل) كما يقول (حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صحت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ)
قضى زكي مبارك في العراق تسعة أشهر حافلة بالعمل زاخرة بالإنتاج، ولم يقف نشاطه في حدود عمله الرسمي، أو دروسه في دار المعلمين العالية، وإنما تجاوزه إلى تأليف ستة مجلدات عن العراق وكتابة مئات المقالات، وإلقاء عشرات المحاضرات. وقد عنى - رحمه الله - بشئون العراق الفكرية والثقافية عناية عظيمة، فدرس الأدب العراقي عن فهم وروية، وكتب عن المرأة العراقية ونهضتها، وتبنى فكرة إنشاء الجامعة العراقية، وتحمس لها أكثر من العراقيين، ودعا إليها في كل مناسبة - وأحياناً بدون مناسبة أيضاً - ولعله كان أول من دعا لها ووجه إليها أنظار المسؤولين، وحملهم على التفكير الجدي فيها. وتطوع - رحمه الله - لتصحيح ما كان خاطئا من الآراء والمعلومات عن العراق في البلاد العربية، فكان على قوله (من صور العراق في مصر، ومن صور مصر في العراق) وكان رسول الأخوة العراقية المصرية، أدى بقلمه ما لا تؤديه سفارات ولا معاهدات، قال في المصريين - وهو شاهد من أهلها - (إن المصريين يفدون إلى العراق وليس في