وإذا كان للرياضة أن تنفرد من حيث الموضوع بمثاليتها التي تتعالى بها على العلوم الأخرى في واقعيتها، فإن لها أن تنفرد بالمنهج البرهاني في مقابل المنهج التجريبي الذي تسلكه الفيزيقاً.
في الفيزيقا نرى أكثر القوانين إن هي إلا معادلات جبرية فقد فسر (براون) الحرارة بتوزيع الذرات حسب متوالية هندسية عرفت في الوسط العلمي باسم (الحركة البراونية)، وكذلك قانون الضغط وقانون الطفو كلاهما معادلات جبرية، وكلاهما إدراك سليم للنسبة بين متغيرين، تلك النسبة التي أدركها العقل بالحدس لا بالتجربة.
ومع ذلك نرى العلماء يختلفون في تفسير الظاهرة الفيزيقية اختلافاً يذهب بأحدهم شرقاً وبالآخر غرباً، فهذه ظاهرة الضوء: يفسرها (نيونون) حسب النظرية الشيئية وبربط رأيه ببدهيات ينقضها (وبجانز) و (فرنل) إذ يفسران الضوء بالتداخل والاستقطاب، ثم يأتي من بعدهم من يفسره بالنظرية الأثيرية.
وفي الكيمياء، ظل العلماء ردحاً من الزمن يعتبرون العناصر عدداً يعد على الأصابع، وبتقدم البحث أوصلوها إلى أكثر من تسعين، وما كان لهم أن يصلوا إلى بمواصلة التحليل، فاستطاعوا أن يضعوا قوانين المزج والتركيب الكيميائي في صور معادلات جبرية وثيقة يعتمدها العقل.
وفي العلوم الكونية جميعا، تمكن العلماء من صوغ قوانينهم في أرقام حسابية أو أشكال هندسية، وسبيلها العام إلى ذلك هو الاستقرار والتجريب ما دامت الموضوعات قابلة للمقياس والمقدار.
وفي البيولوجيا خضعت ظواهرها لهذا المقياس. يقول (بيكار (إن البحوث البيولوجية لا تقفنا على دخائل الأجهزة الداخلية، ولا يمكن أن نكون منها معادلات لها دوال على الوجه الذي نراه في عالم الفيزيقا).
والواقع غير هذا، فقد تقدم علم البيولوجي تقدما ملحوظاً، وتمكن من قياس الظاهرات البيولوجية وتحليلها وتغيير ظروفها لمعرفة التغييرات الناشئة عن ذلك، وهو لم يصل إلى هذا إلا بأمرين هما: التشريح والاستدلال؛ وبهذا التحليل تمكن من معرفة تركيب الخلايا والغدد لمعرفة أثر الحياة الفيزيولوجية في الحياة السيكولوجية، وبهذا انتهى إلى معرفة