يكن يصرف غضبته - كبعض الزعماء - في مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح، ولا ينفس على نفسه بالأوهام، وإنما يوجه هذه الطاقة القوية إلى العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب.
وكان في عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف.
وكان متواضعا تواضع من يعرف قدره، متفائلا، عف اللسان، عف القلم، يجل نفسه عن أن يجري مجرى أصحاب الألسنة الحداد.
كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نزعت منها؛ بعد أن قيل إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان.
وكان يريد أن يكذب قول تليران (إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقية) فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه، أو أمته.
وكان يعمل على أن يسمو بالجماهير، ورجل الشارع، فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب.
ولأول مرة خاطب الجماهير زعيم بما يفتح العيون على الحقائق، ووضع دعوته على المشرحة، وقبل أن يسأل عن أدق الأشياء فيها وفي حياته الخاصة، فقد كانت توجه إليه عقب (أحاديث) الثلاثاء قصاصات، فيها أسئلة غاية في الإحراج، ولكنه كان يجيب عنها في منتهى البساطة والوضوح.
وكأنما أراد أن ينشئ للشرق روحا جديدة من المثل العليا، هذه المادة الضائعة، التي هزم بها الشرق الدنيا وفتح باب أطراف الأرض، كان يريد أن ينشئ القوة التي تصمد في وجه الخطرين الداهمين اللذين يهددان العالم وهما: الإلحاد والاستعباد.
كان يريد أن يجعل من الإسلام قوة تدفع الشيوعية الضالة، والرأسمالية الزائغة، وكان يطمع في أن يرفع الإسلام ويسمو به عن أن يكون خادما للاستعمار باسم الديمقراطية، أو للشيوعية باسم الاشتراكية، وإنما كان يرى الإسلام نظاما كاملا فوق الشيوعية والديكتاتورية والرأسمالية جميعا.
وقد استطاع الرجل - برغم كل ما دبر لوضع حد لدعوته أو حياته - أن يعمل، وأن يضع