مما لا شك فيه أنه كان لتلون الحكومات التي تعاقبت على مصر في السنين الخيرة، واختلافها في النزعات السياسية وتفرقها في الأهواء الحزبية أثر بعيد جداً في الأخلاق العامة. وأشد ما كان هذا الأثر في الموظفين عامة وفي بعض أعيان البلاد
تعاقبت الشيع السياسية الحزبية في الحكم، وتداولته مرات متعددة. وكان من سوء الحظ أن المسألة السياسية الكبرى لم تستقر على حال، فكان هذا مدعاة إلى التناحر والتطاحن بين النزعات المختلفة، فكلما وليت طائفة أمر الحكم، والحكم عندنا أصبح في هذه الظروف يدخل فيه معنى الحرب، رأت نفسها في أشد الحاجة إلى الاستعانة بمن تثق بهم، وتعتمد على صدق ولائهم لها من الموظفين. وسرعان ما تعمد إلى إقصاء قوم وتقريب قوم، ورفع جماعة وخفض آخرين، لا تأخذها في هذا أية هوادة، وهل تأخذ القائد الهوادة فيمن قبله من الجند إذا حمى الوطيس واستحر القتال؟
فإذا زالت عن الحكم هذه الطائفة أو أزيلت، أسرع من يليها فيه فأقصى من قربت، وقرب من أقصت، ووضع من رفعت، ورفع من وضعت، وهكذا دواليك. وربما تطاولت القسوة في هذا التناحر الحزبي إلى تخريب الدور وتجويع العيال، حتى أصبح الموظفون وكأنهم ليسوا مستوين في الدواوين على مكاتبهم، بل على منضدة قمار، تدور الحظوظ فيها في اللحظة بالفقر واليسار، وبالغنى والإعسار!.
اللهم إن الموظف المصري قبل كل شيء إنسان يحرص كل الحرص على أن يعيش. وإنما وسيلته إلى العيش ما يجري عليه من الوظيفة الشهرية يقيم بها شأنه ويعود بها على شمله
ثم إنه لا يرى سبيلاً إلى عصمة المنصب إلا إذا استراح رؤساؤه بالثقة اليه، وهو لا يظفر بهذه الثقة منهم إلا إذا أرضاهم وطاوعهم، وعمل بكل جهده على استخراج عطفهم وإيثارهم. وقد عرفت أن الحكم الحزبي، وخاصة في هذه المرحلة التي تجوزها البلاد، قد يقتضي الموظف الإداري، على وجه خاص، شيئاً من الانحراف عن النهج والعنت على القوانين. فان هو فعل فقد فسق عن واجب الذمة وخان الأمانة، وإن هو آثر الصدق في الخدمة العامة، وتهد في جميع أسبابه بهدى القانون فلأمه الهبل!.
ثم إنه ليعلم ليس بالظن أن دوام الحال من المحال، وأن هذه الحكومة التي يعمل في ولايتها