في الحجاز من العين المعروفة بعين زبيدة، فقد كان المكيون والحجاج ينقلون الماء من مسافات بعيدة مضنية لشربهم وريهم وسقي حيواناتهم، وكان يتكلفون بذلك ويجهدهم فلما حجت الملكة المصلحة السيدة زبيدة أمرت بإحضار المهندسين والعمال وأن يقدروا كلفة العمل وما يتطلبه من المال فبلغ مبلغاً كبيراً استثقله خازنها فقالت كلمتها الخالدة (اصرف ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً) فلم تزل حتى تم لها ما أرادت ووصل الماء إلى مكة من مسافة اثني عشر ميلا في أرض وعرة المسالك. ولا زال منذ عهدها إلى اليوم. ولها أعمال أخرى لا تقل عما تقدم فخراً ومنفعة؛ فقد ابتنت المساجد الكبيرة الواسعة في أطراف بغداد ليتعبد فيها المسلمون فابتنت مسجداً قبالة دار الخلافة يسمى مسجد زبيدة وآخر في أراضيها وأملاكها الخاصة المعروفة بقطيعة أم جعفر وثالث بين باب خراسان ودار الرقيق ورابعاً البيت الذي ولد فيه الرسول بمكة ويسمى دار ابن يوسف، وكانت إلى كل هذا توزع العطايا والهبات على الفقراء والمحتاجين والأيامى كما كانت لا تتردد في مساعدة ذوي الحاجة من كبار رجال الدولة والمملكة.
ولقد كانت أما رؤوما تحنو على ابنها الوحيد محمد الأمين وتعني به عناية كبرى وتحبه حبا جما، فمن ذلك ما رواه خلف الأحمر وكان قد دعاه الرشيد لتدريس ابنه الأمين يقول: جاءتني جارية يوماً برسالة من أم جعفر (زبيدة) تعزم علي بالكف عن معاملته بالشدة في تعليمه وتأديبه وأن أجعل له وقتاً لاستجمام بدنه فقلت: الأمير قد عظم قدره وبعد صيته. وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولاية العهد لا يحتملان التقصير ولا يقبل منه الخطل ولا يرضى منه الزلل في النطق والجهل بالشرائع والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة (فقالت صدقت غير أنها والدة لا تملك نفسها ولا تقدر على كف إشفاقها).
وعلى ذكر ابنها الأمين، فإنه لم يكن بين خلفاء الإسلام من كان أبوه وأمه من بني هاشم غير علي بن أبي طالب وابنه الحسن والأمين بن الرشيد وفي ذلك يقول أبو الهذيل الشاعر:
ملك أبوه وأمه من نبعة ... منها سراج الأمة الوهاج
شربت بمكة من ذرى بطحائها ... ماء النبوة ليس فيه مزاج