للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا يخفى عليك أيتها الجزيرة أن مصدر هذا الآذان الذي كانت الجبال ترتجف له ارتجافاً وهذه السجدة التي كانت الأرض تهتز لها اهتزازاً، إنما هو القلب الفائض بالإيمان، الممتلئ بالحب والحنان، الجريء على الموت، الحريص على الشهادة، الزاهد في الدنيا، المستهين بالمادة، وقد ضعف هذا القلب من مدة طويلة وجنت عليه المادة الغربية والتعليم المادي فأفقدته كثيراً من حنانه وحرارته وخفقانه، وتأثرت بهذا التحول الحياة في كل ناحية من نواحيها ومظهر من مظاهرها وعم المسجد والمدرسة والمنزل والسوق، وشعر به كل من لم يفقد شعوره حتى قام بالأمس أمير الشعراء شوقي في دمشق يقول:

فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان.

لقد عاتبت هذه البلاد العزيزة على هذا التحول كثيراً وحدثتها حديث رجل لرجل، ولكنها قالت لي: إن الجزيرة العربية هي المسئولة عن هذا التحول، فقد كانت مصدر الحياة والقوة والإيمان والروح في العالم كله، وقد كانت توزع الدم الجديد إلى شرايين العالم الإسلامي وعروقه فضلاً عن العالم العربي فشغلت في العهد الأخير بتصدير البترول عن تصدير دم الحياة الإيمانية، واكتفت باستصدار البضائع الأجنبية عن توريد بضاعة الإيمان وغذاء الروح إلى العالم. وجادلت عنك أيتها الجزيرة العربية كثيراً ولقد أوتيت جدلاً ولكنها أفحمتني بالدلائل والأمر الواقع، فأقنعيها بما شئت وأدلي بحجتك فإنما هي أسرتك ومن أقرب الناس إليك.

وسواء كان منك التقصير أولاً، وكنت المسئولة عن هذا التحول المؤسف أم كان غيرك، فإني أبشرك أني شاهدت في العالم العربي طلائع نهضة إسلامية قوية شاملة، وتباشير صبح صادق، فقد بدأ الرأي العام يستيقظ، وبدأ القلق الشديد يساور النفوس، والتذمر من الأوضاع الفاسدة يكاد يكتسح البلاد. وقد بدت حركة رد فعل عنيفة ضد الحضارة الغربية وقيمتها، وظهرت آثار ثورة فكرية سياسية ضد سيادة الغرب والوصاية العالمية التي سلطها الغرب على العالم وفرضها على العالم العربي فرضاً، واستمر يتحكم في أمواله وكنوزه وخيراته، كأنه سفيه أو مجنون أو طفل لم يبلغ سن الرشد، فها هي الأقطار العربية قد بدأت تفهم الحقائق وبدأت تواجه الغرب المتغطرس كرجل كريم يؤمن بشرفه وإنسانيته ويشعر بشخصيته وكرامته، وكرجل حي يعرف الغضب كما يعرف الرضا ويملك حق

<<  <  ج:
ص:  >  >>