والحق أن هارون كان مضطرا إلى مثل ذلك التغافل والتجاوز عن سيئات الشاعر إذ لم يكن له غنى عنه. فهارون مولع الفتيات الحسان يحادثهن ويختلط بهن ويسمع إليهن ينشدن الشعر ويغنينه أو يعزفن على نغماته، وما أكثر ما يجيش في صدر الخليفة من عواطف أو يعتلج بباله من خواطر نتيجة لاختلاطه بأولئك الجواري الحسان. وما أشواقه إلى أن يرى خواطره وقد ترجمت في شعر عذب وصارت أغاني وأناشيد تصدح بها جواريه الفاتنات. يروى لنا التاريخ - وما اقل ما يروي بجانب ما يهمل - أن الرشيد ربما أنشد البيت أو البيتين محاولا التعبير عن فَكرة أو خاطر خطر له ثم يكل ذهنه، وهناك يتلفت إلى من حوله من الشعراء علهم يسعفونه بإتمام ما بدأ. ويروي التاريخ أيضاً أنه ربما أعجب الرشيد بالبيت أو البيتين من الشعر وشرب عليهما وطرب وتمنى أن لو وجد من الشعراء من يلحق بهما بيتاً أو أكثر حتى يطول طربه وسروره، ومن أولى الناس بالجلوس إلى جانب الخليفة وإسعافه في مثل تلك الحال من أبي العتاهية الذي يقول فيه بشار بن برد وقد عجب من سرعة خاطره وسهولة قول الشعر عليه:(أشعر الناس مخنث أهل بغداد الذي يتناول شعره من كمه)
على أن شيئاً آخر كان يزيد في تعلق الرشيد بأبي العتاهية وشغفه بشعره وذلك هو حبه لعتبة، فقد خلق ذلك الحب بين الشاعر والخليفة نوعاً من المشاركة الوجدانية حيث كانا يجتمعان فيشكو كل منهما ما يلاقي في سبيل غرامه. ولعل الأبيات التالية تصور لنا أدق تصوير ما كان بينهما من علاقة في ذلك الشأن، وقد بلغ من تذوق الخليفة لتلك الأبيات وإحساسه بصدق معانيها أن أمر بإحضار الشاعر من سجنه وطلب إليه أن يعيد إنشادها على مسامعه ثم أمر له بخمسين ألف درهم على أثر سماعها، وإليك الأبيات: -
يا عتب سيدتي أمالك دين ... حتى متى قلبي لديك رهين
وأنا الذلول لكل ما حملتني ... وأنا الشقي البائس المسكين
وأنا الغداة لكل باك مسعد ... ولكل صب صاحب وخدين
لا بأس إن لذاك عندي راحة ... للصب أن يلقى الحزين حزين
أحس أبو العتاهية حاجة الرشيد الشديدة إليه فداخله شيء من الغرور والبطر، ولم يعد يكفيه أن صار جليس الخليفة وشاعره الأول، وفي ذلك ما فيه من تكريم، ولا أن يتناول كل عام