للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما تركتم مرة زحمة الناس، وضجة الحياة، ودخلتم بيتاً من بيوت الله ساكنا، فشعرتم بهوان الدنيا، وصغر الأرض، في جنب الله الملك الجبار، ووجدتم حلاوة الإيمان ولذة الاستغراق في العبادة؟

هذه لمحات من عالم الروح

وما لمعات العبقرية المبدعة إلا لمحات أخرى: يد تستطيع أن تحرك الستار، فتبدو من خلاله خطفات من مشاهد ذلك العالم تظهر في اللحن الخالد أو القصة أو القصيدة أو في هجمة ذهن جبار على الشاطئ القريب من بحار المجهول

ولكنكم حبستم نفوسكم من كثافة المادة في غار مغلق فلا ترون من بياض النهار إلا هذه الومضات تلمع من شقوق الصخر ثم تختفي

إنكم غارقون في لج المادة، فمن أين يتنفس الغريق في البحر نسمات الأسحار؟

إنكم تركضون في حلقة مفرغة، تسيرون سير السواني، تفيقون فتسرعون إلى الطعام تبتلعونه ابتلاعا، والجريدة تلتهمونها التهاماً، فإذا لبستم ثيابكم أسرعتم إلى العمل فانغمستم فيه، فإذا كان الظهر عدتم مسرعين إلى الدار فأكلتم وأسرعتم إلى الخروج، ثم عدتم مسرعين إلى المنام

ثم بدأتم من غد من حيث انتهيتم اليوم! ركض أبداَ، وإسراع دائما، ولا تعرفون إلى أين المسير!

قد غفلتم عن جمال الطبيعة من حولكم، فأنتم تقطعون أجمل مراحل الطريق، مرحلة السحر وأنتم نيام، لا تقفون على الروض تجتلون جمال الروض، ولا ترفعون أبصاركم إلى السماء، تفكرون في عظمة السماء، وغفلتم عن نفوسكم، فلا تخلون بها سعة كل يوم، تسألونها، وتتعرفون أسرارها، وتغوصون على جواهرها

حياتكم كلها مسرعة وسباق! سباق في الخير والشر، إسراع إلى الشر والخير

تسابقتم في قطع المسافات، فصرنا نطير من دمشق إلى بغداد في ثلاث ساعات، وكنا نبلغها في ثلاثة أشهر، فهل ربحنا؟ ربحنا الزمن، ولكنا خسرنا العواطف والشعور. كان الطريق يثير في نفوسنا ألف عاطفة، ويبقي فيها ألف ذكرى، نعيش بها دهراً، فصرنا نقطعه في غمظة واحدة!

<<  <  ج:
ص:  >  >>