كان رفيقي في السفر في الثالثة والثلاثين من عمره تقريباً، على رغم أن شعره وخط أكثره الشيب، وكان حسن البزة والشارة، غليظ الشارب تبدو عليه الفراهة والقوة واكتناز اللحم، فبعد أن استقر ومسح جبينه وراح ينفث في الهواء دخان سيجاره رمقني بنظرة هادئة ثم قال:
- لعل دخان سيجاري يزعجك يا سيدي؟
- فقلت له: كلا، ولكن ما كدت أنطق حتى دهشت، ذلك أن هاتين العينين وذلك الصوت وحتى هذه السحنة لم تكن غريبة عني، نعم كنت أعرفها ولكن أين. . ومتى؟ وفي الحق قلد بدا لي أني لاقيت هذا الشاب وكلمته وضغطت على يديه ولكن ذلك كان بعيدا حتى لقد ضاع في ضباب كثيف يخيل للفكر معه أن يتلمس ذكريات الماضي ويتبعها كأنها الأطياف العابرة الهاربة، كان هو أيضاً يحدجني بنظره ويتفرس في وجهي متعرفاً كأنما داخله من التشكك بمعرفتي مثل ما داخلني، وتضايق نظرانا من هذه الملاقاة الملحة فاعترقا، على أنه لم تمض إلا ثوان حتى عادا وتلاقيا ثانية بتأثير حب الكشف والاستطلاع، وابتدرته أنا قائلا:
- يا الله يا سيدي: ألا ترى أنه يحسن بنا بدلا من أن يسارق كل منا صاحبه النظر أن نبحث معا عن المكان والزمان اللذين تعارفنا فيهما أول مرة؟ فأجاب بلطف:
- إنك لمحق يا سيدي، وهنا سميت له نفسي قلت:
- إني أدعي القاضي هنري (بونكلير) فتردد برهة ثم قال بعين غائمة بضباب الذكرى وصوت من يحضر ذهنه كي يستذكر شيئاً عفى عليه الزمن:
- آه. . ذكرتك تماماً، فقد صادفتك في (بوانسل) وكان ذلك منذ اثني عشر عاما قبل الحرب المشئومة. . .
- نعم يا سيدي. . . أوه. . . وإذا فآنت اللوتنان غاليه؟
- نعم أنا بعيني، ثم أصبحت الكابتن (فاليه) قبيل اليوم الذي فقدت فيه ساقي الاثنتين بإصابة فظيعة من قنبلة حربية
وهنا حدق كل منا في صاحبه من جديد يعد هذا التعارف. وتمثل في خاطري هذه الساعة منظر ذلك الشاب الجميل اللطيف الذي كان ملء العين والفؤاد بلباقته وخفته وجماله. ولكن