للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وراء هذه الصورة الغامضة الملفوفة بضباب النسيان، كانت تطفو على ذاكرتي قصة لهذا الشاب، كنت أعرفها وأنسيتها الآن، ولكني لم أنس أنها قصة جذابة الحوادث مغرية رغم قصرها لأن الحب لعب على مسرحها. ثم أخذت ظلال النسيان تنحسر عن ذاكراتي شيئاً فشيئاً؛ وإذا بها تتضوء وتستنير بها المسالك، فيطالعني من خلال سطورها الممحوة وجه فتاة مليحة، وإذا باسمها يرن في سمعي ويجري على لساني: الآنسة (ماندال). . لقد ذكرت كل شيء الآن. . وفي الحق لقد كانت قصة غرام تلك التي نسيتها أولا. كانت تلك الفتاة تحب هذا الرجل حين التقت به، وكان الناس يتحدثون عن زواجهما المنتظر القريب الذي كان يفجر ينابيع الفرح والسعادة في قلب صاحبنا الضابط

وهنا صوبت بصري إلى الصرر الموضوعة إلى الرف فوق رأس الضابط الكسيح. فإذا بها تهتز وتضطرب من حركة القطار، وإذا بي كأني أسمع الآن صوت الخادم يقول لسيده:

كل شيء معد لك يا سيدي. ففي هذه الصرر الخمسة أشياء: السكر، والملبس، والبندقية، والطبل وأخيرا الفطيرة الدسمة. وتألقت في لحظة بخاطري رواية لهذا الكسيح الذي أراه أمامي: رواية تشبه الشبه كله جميع ما كنت قرأته في القصص أو رأيته في المسارح؛ وذلك إما أن يتزوج الخطيب ذو العاهة خطيبته السليمة أو لا. وإذن فإن هذا الضابط المبتور الساقين قد وجد خطيبته بعد الحرب فوهبت نفسها له رغم مصيبته بساقيه. تمثلت كل هذا جيدا في بساطة، ثم عرض لي فجأة افتراض آخر أشبه بالحق وأقرب إلى الواقع المنتظر أيكون الرجل قد تزوج من فتاته قبل الحرب وقبل الفاجعة الأليمة بساقيه؟ أتكون الصبية المسكينة احتسبت الله في مصيبتها فيه وخضعت لمشيئة القدر القاسي، فهي تستقبل مكرهة هذا الكسيح الذي غادرها ملء العين ملاحة وسلامة قبل الحرب، وآب إليها بساقين خشبيتين وجسم ناقص لا يتحرك إلا على عكازين. أتراه سعيدا أو متألما؟! وقامت في نفسي رغبة لا تقاوم في الاستعلام عن قصة زواجه والاستفسار على الأقل عن النقطة المهمة التي أستطيع أن أبصر على ضوئها ما يود هو إخفاءه عني أو ما لا يمكنه الإفضاء به. ورحت أكلمه بأحاديث شتى، بينما عيناي مثبتتان على الصرر الملفوفة التي وضعها خادمة على رف القطار ثم استنتجت من محتوياتها أن له امرأة وطفلين: أما السكر والملبس فلامرأته، وأما الدمية فلطفلته، وأما الطبل والبندقية فلطفله، وأما الفطيرة الدسمة فله هو؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>