بين الفينة والفينة. وهناك كثيرون من مفطوري العامة من يستطيعون أن يجعلوا حديثهم كله سلسلة عجيبة متتالية من الأمثال. ولم العجب وقد ولدت وتحورت في بيئتهم التي يعيشون فيها وورثوها عن آبائهم. فهي صنيعة وراثتهم وبيئتهم وعقليتهم وطوع ألسنتهم
وهل منا من ينكر ذلك ونحن نتحدث عن ظاهرة طبيعية واجتماعية. لغوية من مظاهر الطبع والسليقة. وإذا كنا نصدق أن من الصوفية من تحرز في كلامه المباح من أن ينطق بغير الآيات القرآنية في كل ما يسأل فيه أو يجيب عنه، وأن من الشعراء من حاول أن يجعل جميع كلامه من الشعر ولا فرق عنده بين أحاديث الأدب والأحاديث المباحة. وأن الكسائي قال: لو شئت أن أجعل جميع كلامي مما يقوله النحاة في اصطلاحاتهم لفعلت، وأن إنساناً سأله: ما حكم رجل سها في سجود السهو فأجابه باصطلاحات النحاة: (المصغر لا يصغر)
أفبعد ذلك كله نعجب - ونحن في معرض الطبع - من أن تمثل الأمثال السواد الأعظم من لغتنا العامية أو تصبح سبعة أعشار ما ينطبق به العامة في الشارع والمنزل ومكان العمل. إنها ليست سوى ظاهرة طبيعية لا عجب فيها
وإنما العجب الأكبر إن كان لابد من العجب أن تنطلق (الأمثال) وهي صورة من صور النثر الفني في هذا النماء السريع العجيب المطرد، وأن تتطور مع الحياة ويكتب لها الخلود في كل عصر كما تطورت (لغة الحديث) وكتب لها الخلود تماما. فتراهما تظهران في ثوبين من العامية الإقليمية في مصر أو غيرها من الأقطار العربية
ولعل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على ما بين (التراكيب المثلية) - إن صحت هذه النسبة - وبين لغة الحديث اليومية من قرابة جوهرية واضحة أصيلة لا نستطيع دفعها أو إنكارها